الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
نصراني أعتق عبدا له مسلما كان ولاؤه لقبيلة مولاه الذي أعتقه إن كان من بني تغلب ، فهو تغلبي منسوب إليهم يعقلون عنه ، ويرث المسلمون منهم أقربهم إلى مولاه عصبة ; لأن الولاء يثبت للمعتق وإن كان نصرانيا ، إلا أنه لا يرث لكونه مخالفا له في الدين ، فيقوم أقرب عصبته مقامه في استحقاق ميراثه ، وعقل جنايته على قبيلة مولاه كعقل جناية مولاه ; لأنه منسوب إليهم بالولاء وكل معتق جرى عليه الرق بعد العتق انتقض به الولاء الأول ، وكان حكم الولاء للعتق الذي يحدث من بعد عندنا وعند الشافعي رضي الله عنه لا ينتقض الأول بالاسترقاق ، فربما يقول لا يسترق من عليه ولاء لمسلم ; لأن الولاء كالنسب ، لا يبطل النسب بالاسترقاق أو لمراعاة حق المسلم في الولاء لا يجوز استرقاقه كالحرية المتأكدة بالإسلام ، لا يجوز إبطالها بالرق .

( ولكنا ) نقول : سبب الولاء الأول قد انعدم بالاسترقاق وهو العتق ، وقوة المالكية التي حدثت فيه ولا بقاء للحكم بعد بطلان السبب ، ولا يجوز أن يمتنع الاسترقاق ; لأن سببه قد تقرر فلا يمتنع إلا لمانع [ ص: 115 ] وهي العصمة ، ولا عصمة له باعتبار الولاء كما لا عصمة له باعتبار نسب المسلم حتى يجوز استرقاق الحربي وإن كان له والد مسلم ، وإذا صار رقيقا للثاني فأعتقه فقد اكتسب سبب الولاء عليه لنفسه ، فلهذا كان مولى له حربي أعتق عبدا في دار الحرب ثم خرجا مسلمين كان له أن يوالي من شاء ; لما بينا أن عتقه في دار الحرب باطل ; لأنه لم يخل سبيله ، فلا ولاية له عليه ، وإن خلى سبيله كان عتقه نافذا ، ولكن لا يثبت الولاء له ; لأن ذلك من حكم الإسلام فلا يجري على أهل الحرب ، ولئن ثبت الولاء فهو أثر من آثار الملك ، ولا حرمة لملكه ، فكذلك لا حرمة لأثر ملكه ، ولكن بإحراز العبد نفسه في دار الإسلام يبطل ذلك كله ، فله أن يوالي من شاء .

حربي دخل دارنا بأمان فاشترى عبدا فأعتقه ، أو أعتق عبدا جاء به من دار الحرب معه ، ثم رجع إلى دار الحرب فأسر وجرى عليه الرق فمعتقه مولاه لا يتحول عنه أبدا ; لأن سبب ثبوت الولاء له العتق وإحداث القوة في المملوك ، وذلك باق بعدما صار رقيقا وضعف حاله بسبب الرق ، لا يكون فوق ضعف حاله بالموت ، والولاء الثابت للمعتق لا يبطل بالموت فكذلك برقه . ( فإن قيل ) : الرق الذي حدث فيه ينافي ابتداء الولاء بالعتق ، وإن تقرر سببه منه كما بينا في المكاتب ، فكذلك ينافي بقاءه ( قلنا ) : لا كذلك ولكن الرق مناف حقيقة الملك ، وعليه يترتب العتق الذي يعقبه الولاء ، ولا حاجة إلى ذلك في إبقاء الولاء وهو نظير الموت في أنه ينافي الملك وابتداء الولاء للميت ، ولا ينافي بقاءه فإن مات معتقه كان ميراثه في بيت المال ; لأن مولاه رقيق لا يرثه وليس له عشيرة من المسلمين ، فيوضع ماله في بيت المال نصيب كل مال ضائع وعقل جنايته على نفسه ; لأنه منسوب بالولاء إلى إنسان فإن أعتق هذا الحربي صار مولى لمعتقه ، وكذلك معتقه يكون مولى له بواسطة أم ولد لحربي خرجت إلينا مسلمة ، فهي حرة توالي من شاءت لما بينا أنها أحرزت نفسها بدار الإسلام ، ولو كانت قنة فأحرزت نفسها بالدار كانت تعتق لملكها نفسها ، ولا ولاء عليها لأحد ، فكذلك إذا كانت أم ولد ، ولهذا كان لها أن توالي من شاءت ، والأصل فيه ما روي { أن ستة من عبيد أهل الطائف خرجوا مسلمين حين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم محاصرا لهم ، ثم خرج مواليهم يطلبون ولاءهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أولئك عتقاء الله } .

التالي السابق


الخدمات العلمية