الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) قال ابن الكلبي : نزلت في وحشي وأصحابه ، وكان جعل له على قتل حمزة رضي الله عنه أن يعتق ، فلم يوف له ، فقدم مكة وندم على الذي صنعه هو وأصحابه ، فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا قد ندمنا على ما صنعنا ، وليس يمنعنا عن الإسلام إلا أنا سمعناك تقول بمكة : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ) الآيات وقد دعونا مع الله إلها آخر ، وقتلنا النفس التي حرم الله ، وزنينا ، فلولا هذه الآيات لاتبعناك ، فنزلت : ( إلا من تاب وآمن وعمل ) الآيات ، فبعث بها إليهم فكتبوا : إن هذا شرط شديد نخاف أن لا نعمل عملا صالحا ، فنزلت إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية ، فبعث بها إليهم ، فبعثوا إنا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته ، فنزلت : ( قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ) الآيات فبعث بها إليهم ، فدخلوا في الإسلام ، فقبل منهم ثم قال لوحشي : ( أخبرني كيف قتلت حمزة ) ؟ فلما أخبره قال : ( ويحك غيب عني وجهك ) فلحق وحشي بالشام إلى أن مات .

وأجمع المسلمون على تخليد من مات كافرا في النار ، وعلى تخليد من مات مؤمنا لم يذنب قط في الجنة . فأما تائب مات على توبته فالجمهور على أنه لاحق بالمؤمن الذي لم يذنب ، وطريقة بعض المتكلمين أنه في المشيئة . وأما مذنب مات قبل توبته فالخوارج تقول : هو مخلد في النار ، سواء كان صاحب كبيرة أم صاحب صغيرة . والمرجئة تقول : هو في الجنة بإيمانه ولا تضره سيئاته . و المعتزلة تقول : إن كان صاحب كبيرة خلد في النار . وأما أهل السنة فيقولون : هو في المشيئة ، فإن شاء غفر له وأدخله الجنة من أول وهلة ، وإن شاء عذبه وأخرجه من النار وأدخله الجنة بعد مخلدا فيها .

وسبب هذا الاختلاف تعارض عمومات آيات الوعيد وآيات الوعد ، فالخوارج جعلوا آيات الوعيد عامة في العصاة كافرين ومؤمنين غير تائبين . وآيات الوعد مخصوصة في المؤمن الذي لم يذنب قط ، أو المذنب التائب . والمرجئة جعلوا آيات الوعيد مخصوصة في الكفار ، وآيات الوعد مخصوصة في المؤمن تقيهم وعاصيهم . وأهل السنة خصصوا آيات الوعيد بالكفر وبمن سبق في علمه أنه يعذبه من المؤمنين العصاة ، وخصصوا آيات الوعد بالمؤمن الذي لم يذنب ، وبالتائب ، وبمن سبق في علمه العفو عنه من المؤمنين العصاة . و المعتزلة خصصوا آيات الوعد بالمؤمن الذي لم يذنب ، وبالتائب ، وآيات الوعيد بالكافر وذي الكبيرة الذي لم يتب .

وهذه الآية هي الحاكمة بالنص في موضع النزاع ، وهي جلت الشك ، وردت على هذه الطوائف الثلاث . فقوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ، والمعنى : أن من مات مشركا لا يغفر له ، هو أصل مجمع عليه من [ ص: 269 ] الطوائف الأربع . وقوله : ويغفر ما دون ذلك راد على الخوارج وعلى المعتزلة ، لأن ما دون ذلك عام تدخل فيه الكبائر والصغائر . وقوله : لمن يشاء راد على المرجئة ، إذ مدلوله أن غفران ما دون الشرك إنما هو لقوم دون قوم على ما شاء تعالى ، بخلاف ما زعموه بأن كل مؤمن مغفور له . وأدلة هؤلاء الطوائف مذكورة في علم أصول الدين . وقد رامت المعتزلة والمرجئة رد هذه الآية إلى مقالاتهما بتأويلات لا تصح ، وهي منافية لما دلت عليه الآية .

قال الزمخشري : فإن قلت : قد ثبت أن الله عز وعلا يغفر الشرك لمن تاب منه ، وأنه لا يغفر ما دون الشرك من الكبائر إلا بالتوبة ، فما وجه قوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ؟ قلت : الوجه أن يكون الفعل المنفي والمثبت جميعا موجهين إلى قوله : لمن يشاء كأنه قيل : إن الله لا يغفر لمن يشاء الشرك ، ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك . على أن المراد بالأول من لم يتب ، وبالثاني من تاب . ونظيره قولك : إن الأمير لا يبذل الدينار ويبذل القنطار لمن يستأهله انتهى كلامه . فتأول الآية على مذهبه . وقوله : قد ثبت أن الله عز وعلا يغفر الشرك لمن تاب عنه ، هذا مجمع عليه . وقوله : وإنه لا يغفر ما دون الشرك من الكبائر إلا بالتوبة . فنقول له : وأين ثبت هذا ؟ وإنما يستدلون بعمومات تحتمل التخصيص ، كاستدلالهم بقوله : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا ) الآية ، وقد خصصها ابن عباس بالمستحل ذلك وهو كافر . وقوله : قال : فجزاؤه أن جازاه الله . وقال : الخلود يراد به المكث الطويل لا الديمومة لا إلى نهاية ، وكلام العرب شاهد بذلك . وقوله : إن الوجه أن يكون الفعل المنفي والمثبت جميعا موجهين إلى قوله : لمن يشاء ، إن عنى أن الجار يتعلق بالفعلين ، فلا يصح ذلك . وإن عنى أن يقيد الأول بالمشيئة كما قيد الثاني فهو تأويل . والذي يفهم من كلامه أن الضمير الفاعل في قوله : يشاء عائد على ( من ) ، لا على ( الله ) . لأن المعنى عنده : أن الله لا يغفر الشرك لمن يشاء أن لا يغفر له بكونه مات على الشرك غير تائب منه ، ويغفر ما دون الشرك من الكبائر لمن يشاء أن يغفر له بكونه تاب منها . والذي يدل عليه ظاهر الكلام أنه لا قيد في الفعل الأول بالمشيئة ، وإن كانت جميع الكائنات متوقفا وجودها على مشيئته على مذهبنا . وأن الفاعل في يشاء هو عائد على الله تعالى ، لا على ( من ) ، والمعنى : ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء أن يغفر له . وفي قوله تعالى : لمن يشاء ترجئة عظيمة بكون من مات على ذنب غير الشرك لانقطع عليه بالعذاب ، وإن مات مصرا .

قال الأعمش بن عمر : كنا على عهد رسول الله إذا مات الرجل على كبيرة شهدنا له أنه من أهل النار ، حتى نزلت هذه الآية ، فأمسكنا عن الشهادات . وفي حديث عبادة بن الصامت في آخره ( ومن أصاب شيئا من ذلك أي - من المعاصي التي تقدم ذكرها - فستره عليه ، فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه ) أخرجه مسلم . ويروى عن علي وغيره من الصحابة : ما في القرآن آية أحب إلينا من هذه الآية . وفي هذه الآية دليل على أن اليهودي يسمى مشركا في عرف الشرع ، وإلا كان مغايرا للمشرك ، فوجب أن يكون مغفورا له . ولأن اتصال هذه الآية بما قبلها إنما كان لأنها تتضمن تهديد اليهود ، فاليهود داخلة تحت اسم الشرك . فأما قوله : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا ) ثم قال : ( والذين أشركوا ) وقوله : ( ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين ) و ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ) فالمغايرة وقعت بحسب المفهوم اللغوي ، والاتحاد بحسب المفهوم الشرعي .

وقد قال الزجاج : كل كافر مشرك ، لأنه إذا كفر مثلا بنبي زعم أن هذه الآيات التي أتى بها ليست من عند الله ، فيجعل ما لا يكون إلا لله لغير الله ، فيصير مشركا بهذا المعنى . فعلى هذا يكون التقدير : إن الله لا يغفر كفر من كفر به ، أو بنبي من أنبيائه . والمراد : إذ ألقى الله بذلك ، لأن الإيمان يزيل عنه إطلاق [ ص: 270 ] الوصف بما تقدمه من الكفر بإجماع ، ولقوله عليه السلام : ( الإسلام يجب ما قبله ) .

( ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ) أي اختلق وافتعل ما لا يمكن . وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم ؟ قال : ( أن تجعل لله ندا وقد خلقك ) .

( ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم ) قال الجمهور : هم اليهود . وقال الحسن وابن زيد : هم النصارى . قال ابن مسعود : يزكي بعضهم بعضا لتقبل عليهم الملوك وسفلتهم ، ويواصلوهم بالرشا . وقال عطية عن ابن عباس : قالوا آباؤنا الذين ماتوا يزكوننا عند الله ويشفعون لنا . وقال الضحاك والسدي في آخرين : أتى مرحب بن زيد وبحري بن عمرو وجماعة من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعهم أطفالهم فقالوا : هل على هؤلاء من ذنب ؟ فقال : لا . فقالوا : نحن كهم ، ما أذنبنا بالليل يكفر عنا بالنهار ، وما أذنبنا بالنهار يكفر عنا بالليل فنزلت . وقيل : هو قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه . وعلى القول بأنهم اليهود والنصارى فتزكيهم أنفسهم . قال عكرمة ، و مجاهد ، وأبو مالك : كانوا يقدمون الصبيان الذين لم يبلغوا الحلم فيصلون بهم ويقولون : ليست لهم ذنوب ، فإذا صلى بنا المغفور له غفر لنا . وقال قتادة والحسن : هو قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) ( كونوا هودا أو نصارى تهتدوا ) وفي الآية دلالة على الغض ممن يزكي نفسه بلسانه ويصفها بزيادة الطاعة والتقوى والزلفى عند الله . وقوله : ( والله إني لأمين في السماء ، أمين في الأرض ) حين قال له المنافقون : اعدل في القسمة ؛ إكذاب لهم إذ وصفوه بخلاف ما وصفه به ربه ، وشتان من شهد الله له بالتزكية ، ومن شهد لنفسه أو شهد له من لا يعلم . قاله الزمخشري وفيه بعض تلخيص .

قال الراغب ما ملخصه : التزكية ضربان : بالفعل ، وهو أن يتحرى فعل ما يظهره ، وبالقول وهو الإخبار عنه بذلك ومدحه به . وحظر أن يزكي الإنسان نفسه ، بل أن يزكي غيره ، إلا على وجه مخصوص . فالتزكية إخبار بما ينطوي عليه الإنسان ، ولا يعلم ذلك إلا الله تعالى .

( بل الله يزكي من يشاء ) : بل إضراب عن تزكيتهم أنفسهم ، إذ ليسوا أهلا لذلك . واعلم أن المزكي هو الله تعالى ، وأنه تعالى هو المعتد بتزكيته ، إذ هو العالم ببواطن الأشياء والمطلع على خفياتها . ومعنى يزكي من يشاء أي : من يشاء تزكيته بأن جعله طاهرا مطهرا ، فذلك هو الذي يصفه الله تعالى بأنه مزكى .

( ولا يظلمون فتيلا ) إشارة إلى أقل شيء كقوله : ( إن الله لا يظلم مثقال ذرة ) فإذا كان تعالى لا يظلم مقدار فتيل ، فكيف يظلم ما هو أكبر منه ؟ وجوزوا أن يعود الضمير في : ولا يظلمون ، إلى الذين يزكون أنفسهم ، وأن يعود إلى من على المعنى ، إذ لو عاد على اللفظ لكان : ولا يظلم وهو أظهر ، لأنه أقرب مذكور ، ولقطع ( بل ) ما بعدها عما قبلها . وقيل : يعود على المذكورين من زكى نفسه ، ومن يزكيه الله . ولم يذكر ابن عطية غير هذا القول .

وقال الزمخشري : ( ولا يظلمون ) أي : الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكيتهم أنفسهم حق جزائهم ، أو من يشاء يثابون ولا ينقصون من ثوابهم ونحوه ، فلا تزكوا أنفسكم ، هو أعلم بمن اتقى ، انتهى . وقرأ الجمهور : ألم تر بفتح الراء . وقرأ السلمي : بسكونها إجراء للوصل مجرى الوقف . وقيل : هي لغة قوم لا يكتفون بالجزم بحذف لام الفعل ، بل يسكنون بعده عين الفعل . وقرأ الجمهور : ولا يظلمون بالياء . وقرأت طائفة : ( ولا تظلمون ) بتاء الخطاب . وانتصاب ( فتيلا ) - قال ابن عطية : على أنه مفعول ثان ، ويعني على تضمين ( تظلمون ) معنى ما يتعدى لاثنين ، والمعنى : مقدار فتيل ، وهو كناية عن أحقر شيء . وإلى أنه الخيط الذي في شق النواة - ذهب ابن عباس وعطاء ومجاهد . وإلى أنه ما يخرج من بين الأصابع أو الكفين بالفتل ذهب ابن عباس أيضا ، وأبو مالك والسدي . وإلى أنه نفس الشق ذهب الحسن .

التالي السابق


الخدمات العلمية