الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          أما تفسير الآية فهو ما ترى : ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا ) أي إن جزاء الذين يفعلون ما ذكر محصور فيما يذكر بعده من العقوبات على سبيل الترتيب والتوزيع على جناياتهم ومفاسدهم ، لكل منها ما يليق بها من العقوبة .

                          والمحاربة مفاعلة من الحرب ، وهي ضد السلم ، والسلم السلام ; أي السلامة من الأذى والضرر والآفات ، والأمن على النفس والمال ، والأصل في معنى كلمة الحرب التعدي وسلب المال . لسان العرب : الحرب بالتحريك ، أن يسلب الرجل ماله ، حربه يحربه ( بوزن طلب ، وكذا بوزن تعب ) إذا أخذ ماله ، فهو محروب وحريب ، من قوم حربى وحرباء ، ثم قال : حريبة الرجل ماله الذي يعيش به ، والحرب بالتحريك أخذ الحريبة ; فهو أن يأخذ ماله ويتركه بلا شيء يعيش به ، انتهى . فأنت ترى أن الحرب والمحاربة ليس مرادفا للقتل والمقاتلة ، وإنما الأصل فيها الاعتداء والسلب وإزالة الأمن ، وقد يكون ذلك بقتل وقتال ، وبدونهما . وقد ذكر القتل والقتال في القرآن في أكثر من مائة آية . وأما المحاربة فلم تذكر إلا في هذه وفي قوله تعالى في بيان علة بناء المنافقين لمسجد الضرار : ( وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل ) ( 9 : 107 ) . قال رواة التفسير المأثور : أي ترقبا وانتظارا للذي حارب الله ورسوله ، من قبل بناء هذا المسجد ، وهو أبو عامر الراهب [ ص: 295 ] ; فإنه كان شديد العداوة للإسلام ، ووعد المنافقين بأن يذهب ويأتيهم بجنود من عند قيصر للإيقاع بالنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، فمحاربة هذا الراهب من قبل كانت بإثارة الفتن ، لا بالقتال والنزال ، وأما لفظ " الحرب " فقد ذكر في أربعة مواضع من أربع سور ; منها إعلام المصرين على الربا بأنهم في حرب لله ورسوله بأكلهم أموال الناس بالباطل ، والباقي بالمعنى المشهور ، وهو ضد السلم . وكان أهل البوادي - ولا يزالون - يغزو بعضهم بعضا لأجل السلب والنهب ، وقد جعل الفقهاء كتاب المحاربة - ويقولون الحرابة أيضا - غير كتاب الجهاد والقتال . وجعلوا الأصل فيها هاتين الآيتين ، وعرفوها بأنها إشهار السلاح وقطع السبيل ، واشترط بعضهم كالشافعي أن يكون ذلك من أهل الشوكة .

                          ( كالذين يؤلفون العصابات المسلحة للسلب والنهب وقتل من يعارضهم ، أو لمقاومة السلطة ; ابتغاء الفتنة والفساد ) واشترطوا فيها شروطا سنشير إلى المهم منها .

                          أما كون هذا النوع من العدوان محاربة لله ولرسوله فلأنه اعتداء على شريعة السلم والأمان والحق والعدل الذي أنزله الله على رسوله . فمحاربة الله ورسوله هي عدم الإذعان لدينه وشرعه في حفظ الحقوق ، كما قال تعالى في المصرين على أكل الربا : ( فأذنوا بحرب من الله ورسوله ) ( 2 : 279 ) وليس معناه محاربة المسلمين ، كما قال بعض المفسرين : فمن لم يذعنوا للشرع فيما يخاطبهم به في دار الإسلام يعدون محاربين لله ورسوله عليه السلام فيجب على الإمام الذي يقيم العدل ويحفظ النظام أن يقاتلهم على ذلك ، كما فعل الصديق رضي الله عنه بمانعي الزكاة ، حتى يفيئوا ويرجعوا إلى أمر الله ، ومن رجع منهم في أي وقت يقبل منه ويكف عنه ، ولكن إذا امتنعوا على إمام العدل المقيم للشرع ، وعثوا إفسادا في الأرض ، كان جزاؤهم ما بينه الله في هذه الآية ، فقوله تعالى : ( ويسعون في الأرض فسادا ) متمم لما قبله ; أي يسعون فيها سعي فساد أو مفسدين في سعيهم لما صلح من أمور الناس في نظام الاجتماع وأسباب المعاش .

                          والفساد ضد الصلاح ، فكل ما يخرج عن وضعه الذي يكون به صالحا نافعا ، يقال إنه قد فسد ، ومن عمل عملا كان سببا لفساد شيء من الأشياء يقال إنه أفسده ، فإزالة الأمن على الأنفس أو الأموال أو الأعراض ، ومعارضة تنفيذ الشريعة العادلة وإقامتها ، كل ذلك إفساد في الأرض . روى عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد أن الفساد هنا الزنا والسرقة وقتل النفس ، وإهلاك الحرث والنسل ، وكل هذه الأعمال من الفساد في الأرض . واستشكل بعض الفقهاء قول مجاهد بأن هذه الذنوب والمفاسد لها عقوبات في الشرع غير ما في الآية ، فللزنا والسرقة والقتل حدود ، وإهلاك الحرث والنسل يقدر بقدره ، ويضمنه [ ص: 296 ] الفاعل ويعزره الحاكم بما يؤديه إليه اجتهاده ، وفات هؤلاء المعترضين أن العقاب المنصوص في الآية خاص بالمحاربين من المفسدين الذين يكاثرون أولي الأمر ، ولا يذعنون لحكم الشرع ، وتلك الحدود إنما هي للسارقين والزناة أفرادا ، الخاضعين لحكم الشرع فعلا ، وقد ذكر حكمهم في الكتاب العزيز ، بصيغة اسم الفاعل المفرد كقوله : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) ( 5 : 38 ) و ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ( 24 : 2 ) وهم يستخفون بأفعالهم ولا يجهرون بالفساد حتى ينتشر بسوء القدوة بهم ، ولا يؤلفون له العصائب ليمنعوا أنفسهم من الشرع بالقوة ، فلهذا لا يصدق عليهم أنهم محاربون الله ورسوله ومفسدون ، والحكم هنا منوط بالوصفين معا ، وإذا أطلق الفقهاء لفظ المحاربين فإنما يعنون به المحاربين المفسدين ; لأن الوصفين متلازمان .

                          ولا تتحقق محاربة الله ورسوله بمحاربة الشرع ، ومقاومة تنفيذه وإفساد النظام على أهله إلا في دار الإسلام ، وللكفار في دار الحرب أحكام أخرى كما قال الفقهاء ، وأحكامهم تذكر في كتاب الجهاد ، لا في كتاب المحاربة أو الحرابة كما تقدم ، وقد فطن لهذا المعنى بعضهم ، ولم يتضح له تمام الاتضاح ، فاشترط أن يكون المحاربون المفسدون من المسلمين كما تقدم ، والصواب أن يكون إفسادهم في دار الإسلام . ولا فصل حينئذ فيهم بين أن يكونوا مسلمين أو ذميين أو معاهدين أو حربيين . كل من قدرنا عليه منهم نحكم بينهم بهذه الآية .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية