الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ولما كان المراد من السؤال الذي أجيب عنه بهذا الجواب هو إقامة الحجة التي يظهر بها عدل الله تعالى يوم القيامة فيما يجزى به من اتخذ عيسى وأمه إلهين وغيرهم من قومه فوض عليه السلام أمر الجزاء إليه تعالى بحسب ما تقتضيه شهادته تعالى وصفاته فقال : ( إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) أي إن تعذب أولئك الناس الذين أرسلتني إليهم فبلغتهم ما أمرتني به من توحيدك وعبادتك وحدك ، فضل من ضل منهم ، وقالوا ما لم أقله لهم ، واهتدى من اهتدى منهم فلم يعبدوا معك أحدا من دونك ، فإنهم عبادك وأنت ربهم الأولى والأحق بأمرهم ولست أنا ولا غيري من الخلق بأرحم بهم ، ولا بأعلم بحالهم ، وإنما تجزيهم بحسب علمك بظواهرهم وبواطنهم ، فأنت أعلم بالمؤمن الموحد ، والمشرك المثلث ، والطائع الصالح ، والعاصي الفاسق ، والمقر للكفر والفسق والمنكر لهما ، وأنت عالم الغيب والشهادة تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، ولا تظلم أحدا مثقال ذرة [ ص: 224 ] فالمراد إذا إن تعذب فإنما تعذب من يستحق التعذيب منهم ، ولا يمنع إرادة هذا المعنى إطلاق الضمير الراجع إلى جملتهم ، فإنه ضمير الجنس الذي يصدق ببعض الأفراد وهو لم يرد بصيغة من صيغ العموم ولذلك أطلقه في المقابل ، وهو قوله : ( وإن تغفر لهم ) إلخ ، أي وإن تغفر فإنما تغفر لمن يستحق المغفرة منهم فإنك أنت العزيز ، أي القوي الغالب على أمره ، الحكيم في جميع تصرفه وصنعه ، فيضع كل حكم وجزاء وفعل في موضعه وهو أعلم بموضع العدل ، وموضع الرحمة والفضل .

                          وهذا التوجيه أظهر من قول بعضهم : إن تعذب من أشرك منهم فإنهم عبادك وإن تعذب من آمن منهم فإنك أنت العزيز الحكيم ، فإن هذا تعيين لمن يعذبه ومن يغفر له ينافيه إطلاق ضمير الجنس في مقام التفويض الذي مهد له بالبراءة مما قالوه فيه وفي أمه . مخالفا لما بلغهم عن ربه ، وإثبات أن الله تعالى هو الرقيب عليهم والشهيد على كل شيء يقع منهم ومن غيرهم ، فكأنه قال لربه : إنك أنت العليم الحكيم بما كان منهم مدة وجودي بينهم وبعد وفاتي وأنت الشهيد عليهم ولا شهادة أكبر ولا أصدق من شهادتك ، فمهما توقعه فيهم من عذاب فلا دافع له من دونك ; إذ لا يوجد أحد أرحم منك بعبادك فيرحمهم أو يسألك أن ترحمهم ومهما تمنحهم من مغفرة فلا يستطيع أحد حرمانهم منها بحوله وقوته; لأنك أنت العزيز الذي يغلب ولا يغلب ، ويمنع من شاء ما شاء ولا يمنع ، ولا بتحويلك عن إرادتك فإنك أنت الحكيم الذي تضع كل شيء موضعه ، فلا يمكن لأحد غيرك أن يرجعك عنه بناء على أن غيره أولى منه . فمن ذا الذي يستطيع الاستدراك أو الافتيات عليك ؟ .

                          فهذا بيان ما يقتضيه التفويض المطلق إلى الله تعالى وحده ، بل أقول : إن في جزاء الشرط الأول إشارة إلى أن تعذيب من يظن المخلوقون أنهم يستحقون المغفرة إن وقع من الله فلا يكون إلا عدلا; لأنهم عباد الله المضافون إليه ، ومن شأن هذه الإضافة أن تفيدهم مغفرة منه ورحمة ، يدل على ذلك قوله تعالى : ( يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ) ( 43 : 68 ) ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ) ( 39 : 53 ) وأمثالهما من الآيات التي أضيف فيها لفظ عباد إلى الله ، فإذا وقع عليهم العذاب فلا بد أن يكون سببه الذي خفي عن المخلوقين عظيما ، فالأدب التفويض وفي جزاء الشرط الثاني إشارة إلى أن المغفرة إن أصابت من يظن المخلوقون إنه يستحق العذاب فلا تكون من الله تعالى إلا لغاية اقتضتها عزة الألوهية ، وحكمة الربوبية فلا عبرة بالظواهر التي تبدو للمخلوقين بالنسبة إلى علم علام الغيوب وحكمته ولا سيما في ذلك اليوم ، فالواجب أن يفوض إليه الأمر كله ، يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء ، وبهذا تنجلي نكتة اختيار ( العزيز الحكيم ) هنا على ( الغفور الرحيم ) على خلاف ما يظهر بادئ الرأي من أسلوب القرآن في مراعاة مناسبة المقام في قرن الأسماء الإلهية بالأفعال والأحكام كما تقدم بيانه في تفسير [ ص: 225 ] ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ) ( 5 : 38 ، 39 ) فذكر عيسى عليه السلام لاسمي الله ( العزيز الحكيم ) في جزاء شرطية المغفرة كذكره لكلمة ( عبادك ) في جزاء شرطية التعذيب ، كل منهما وقع في محله الذي تقتضيه البلاغة في مقام التفويض فكان حجة له ولو أراد بكلامه الشفاعة والاسترحام لعكس ، ولكل مقام مقال . ولولا هذا لكان كل منهما اعتراضا على الرب ، أو تعريضا بحكمه جل وعز ، وحاشا لعيسى عليه الصلاة والسلام من ذلك .

                          ولما غفل من غفل من المفسرين عن هذا مع تصريح بعضهم بأن الكلام في تفويض الأمر إلى الله تعالى استشكلوا العبارة ، وحاروا فيما فهموه من دلالتها على جواز غفران الشرك ، وطفقوا يتلمسون النكتة لترتيب الغفران على صفتي العزة والحكمة ، دون ما يتبادر من ترتيبه على صفتي المغفرة والرحمة ، واستنجدوا مذاهبهم الكلامية في ذلك فأنجدت مفسري الأشعرية بما استطالوا به على مفسري المعتزلة فقالوا : إن المعنى إن تعذبهم فإنهم عبيدك ، والمالك يتصرف بعبده كما يشاء ، فلا يسأل ولا يعترض عليه ، وإن عذب أكملهم إيمانا وإسلاما وإحسانا ، وقال بعضهم : إن المراد فإنهم عبيدك الأرقاء إلى أسر ملكك ، الضعفاء العاجزون عن الامتناع من عقابك ، وإن تغفر لهم ما كان من شركهم وكفرهم وما يتبعه من سوء أعمالهم فإنك أنت القوي القادر على ذلك ، الحكيم فيه من حيث إن المغفرة مستحسنة لكل مجرم : قاله أبو السعود : وقال الآلوسي : والمغفرة للكافر لم يعدم فيها وجه حكمة لأن المغفرة حسنة لكل مجرم في المعقول ، بل متى كان المجرم أعظم جرما كان العفو عنه أحسن لأنه أدخل في الكرم ، وإن كانت العقوبة أحسن في حكم الشرع من جهات أخر اهـ . وظاهر هذا أن حكم الشرع في هذا الأصل من أصول الدين على خلاف المعقول وليس كذلك .

                          وأجاب الرازي عن الإشكال الموهوم بأربعة وجوه :

                          ( الأول ) أن ما ذكر في سؤال الله لعيسى يعلم منه أن قوما من النصارى حكوا عنه ما هو كفر وحاكي الكفر ليس بكافر بل مذنب بكذبه في هذه الحكاية فلهذا طلب المغفرة له .

                          وهذا وجه أملاه عليه ما اعتاد من الجدل في الألفاظ وهو غافل عن حال من حكى الله عنهم ذلك القول ، وهو أنهم يدعون ألوهية المسيح ، ويعبدونه ويعبدون أمه ، وعن حال من حكوه هم عنه ، وهو إنه رسول الله إليهم ، وحكاية الشرك والكفر عن الرسول كفر في نفسه ، ويستلزم إما الكفر بالرسول وإما الأخذ بما حكى عنه من الكفر .

                          ( الثاني ) قوله " إنه يجوز على مذهبنا من الله تعالى أن يدخل الكفار الجنة ، وأن يدخل الزهاد والعباد النار; لأن الملك ملكه ولا اعتراض لأحد عليه ، فذكر عيسى هذا [ ص: 226 ] الكلام ومقصوده منه تفويض الأمور كلها إلى الله وترك التعرض والاعتراض بالكلية ، ولذا ختم الكلام بقوله : ( فإنك أنت العزيز الحكيم ) يعني أنت قادر على ما تريد ، حكيم في كل ما تفعل ، لا اعتراض لأحد عليك ، فمن أنا والخوض في أحوال الربوبية . وقوله : " إن الله لا يغفر الشرك " فنقول : إن غفرانه جائز عندنا وعند جمهور البصريين من المعتزلة ، قالوا : لأن العقاب حق الله على المذنب وفي إسقاطه منفعة للمذنب ، وليس في إسقاطه على الله مضرة ، فوجب أن يكون حسنا . بل دل الدليل السمعي في شرعنا على أنه لا يقع ، فلعل هذا الدليل السمعي ما كان موجودا في شرع عيسى عليه السلام انتهى بحروفه .

                          وهذا الوجه مخالف للمعقول والمنقول من نصوص القرآن وصحاح الأحاديث من عدة وجوه لا حاجة في هذا الموضع إلى تفصيلها وترجيح مذهب السلف وأهل الأثر بها على مذهب الأشاعرة في موضوع إثبات العدل والحكمة لله تعالى لا عليه وتنزيهه عن ضدهما ، ولا إلى بيان كون العدل والحكمة لا يعقل أن يتحققا فيمن لا فرق في أفعاله بين الأضداد ، بحيث يكون الضدان عنده في الحسن والعدل والحكمة سواء .

                          ولكننا نقول : إن حاصل هذا الوجه أن عيسى عليه السلام يجيز ويستحسن الغفران للمشركين من قومه ، بناء على أنه حسن معقول في نفسه ، وأنه لا يوجد مانع يمنع منه في شرعه . وهذا يخالف نص قوله تعالى المتقدم في هذه السورة : ( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ) ثم إن هذا الوجه يقتضي اختلاف دين الله الواحد ، في هذا الأصل من أصول العقائد ، وأن تكون ملة محمد صلى الله عليه وسلم أبعد من ملة عيسى عليه رحمة الله ومغفرته والنصوص تدل على أنها أجدر من غيرها بهذه السعة ، ومنها مسألة غفران الشرك لو كان مما يشرعه الله ويرضاه; لأن من جاء بها هو الذي خاطبه الله تعالى بقوله : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ( 21 : 107 ) وقال فيه إنه يضع عن اليهود والنصارى إصرهم والأغلال التي كانت عليهم .

                          وأما الوجه الثالث من أجوبته فمبني على جواز توبة من قالوا ذلك الكفر ، وهو بديهي البطلان ، ولو صح لقيل : إن المعهود في القرآن أن تقرن المغفرة للتائبين بذكر المغفرة والرحمة لا بذكر العزة والحكمة .

                          وأما الوجه الرابع فهو مبني على ما روي عن السدي مخالفا للجمهور من أن هذا السؤال والجواب في الآيات كانا بعد رفع عيسى إلى السماء ( قال في تصويره ) يعني : إن توفيتهم [ ص: 227 ] على الكفر وعذبتهم فإنهم عبادك فلك ذاك ، وإن أخرجتهم بتوفيقك من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان وغفرت لهم ما سلف منهم فلك أيضا ذاك ، وعلى هذا التقدير فلا إشكال اهـ .

                          وأقول : إن هذا الوجه أضعف من الوجه الذي قبله ، فجميع ما أورده الرازي من الوجوه ضعيف ، وما كان ليخفى ضعفها بل سقوطها وبطلان كثير من مسائلها على ذكائه النادر ، واطلاعه الواسع ، لولا عصبية المذاهب . ولكن قوله في أثناء شرح الوجه الثاني إن مقصد عيسى عليه السلام من كلامه تفويض الأمر إلى الله عز وجل هو الحق المبين ، وقد هدانا الله تعالى إلى تفسيره ، وشرح نكتة البلاغة فيه بأوضح تبيين .

                          وقد علم مما بيناه أن كلام عيسى عليه السلام لا يتضمن شيئا من الشفاعة لقومه ، ويؤيد هذا عدة أحاديث ( منها ) حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في صحيح مسلم " أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله تعالى في إبراهيم صلى الله عليه وسلم ( رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ) ( 14 : 36 ) الآية . وقول عيسى عليه السلام : ( إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) فرفع يديه وقال : اللهم أمتي أمتي . وبكى فقال الله عز وجل : يا جبرائيل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله ما يبكيك فأتاه جبريل فسأله ، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم فقال الله : يا جبريل اذهب إلى محمد فقل : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك " ( ومنها ) حديث ابن عباس في صحيح البخاري قال فيه : " ألا وإنه يجاء برجال من أمتي يوم القيامة فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول : أصحابي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول كما قال العبد الصالح ( وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم ) إلى قوله : ( الحكيم ) قال فيقال : " إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم " وفي حديث أبي هريرة عند البخاري وغيره بهذا المعنى زيادة " فأقول بعدا لهم وسحقا " وقد ورد هذا المعنى في عدة أحاديث في الصحاح والسنن في ألفاظها بعض اختلاف لا يغير المعنى . منها أن هؤلاء الذين أحدثوا بعده صلى الله عليه وسلم يذادون ، أي يطردون عن الحوض . واختلف العلماء فيهم ، فقيل : هم ارتدوا بعده عن الإسلام وقاتلهم أبو بكر ، وقيل : هم المنافقون ، وقيل : هم المبتدعة . ( ومنها ) حديث أبي ذر عند أحمد والنسائي وابن مردويه " أنه صلى الله عليه وسلم قام بهذه الآية ( إن تعذبهم فإنهم عبادك ) إلخ . حتى أصبح يركع بها ويسجد فسأله أبو ذر عن ذلك فقال : إني سألت ربي سبحانه الشفاعة فأعطانيها وهي نائلة إن شاء الله تعالى من لا يشرك بالله شيئا " .

                          فهذه الأحاديث تدل على أن مقام التفويض غير مقام الشفاعة وأن الشفاعة لا تنال أحدا يشرك بالله تعالى شيئا ، وفاقا لما جاء به الوحي على لسان عيسى صلى الله عليه وسلم كما تقدم [ ص: 228 ] في هذه السورة ، وعلى لسان محمد صلى الله عليه وسلم كما تقدم في آيتين من سورة النساء ، ووفاقا للآيات التي تنفي الشفاعة في الآخرة بإطلاق أو تنفي قبولها ، أو تقيدها على تقدير حصولها بمثل قوله تعالى : ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ) ( 21 : 28 ) .

                          بعد ما تقدم من تفويض عيسى أمر قومه إلى ربه عز وجل بتلك العبارة البليغة ، في إثر تلك الأجوبة السديدة ، تتوجه النفس إلى معرفة ما يقوله الرب في ذلك اليوم العظيم ، وتسأل عنه بلسان الحال أو المقال إن لم تسمعه ، وذلك قوله عز وجل :

                          ( قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ) قرأ الجمهور " يوم " بالرفع وهو خبر هذا ، أي قال الله تعالى : إن هذا اليوم هو اليوم الذي ينفع فيه الصادقين صدقهم في إيمانهم وشهاداتهم ، وفي سائر أقوالهم وأحوالهم . وقرأه نافع بالنصب وقيل بالبناء على الفتح أي قال الله : هذا أي الذي قاله عيسى واقع أو كائن يوم ينفع الصادقين صدقهم . ثم بين هذا النفع بيانا مستأنفا فقال :

                          ( لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم ) الجملة الأولى تقدم تفسيرها مرارا ، وأما الجملة الثانية فهي بيان للنعيم الروحاني بعد ذكر النعيم الجثماني ، فإن رضا الله تعالى عنهم ورضاهم عنه هو غاية السعادة الأبدية في نفسه ، وفيما يترتب عليه من عطاياه تعالى وإكرامه ، ومن كونهم يكونون ناعمين بذلك الإكرام مغتبطين به ، إذ لا مطلب لهم أعلى منه فتشتد أعناقهم إليه وتستشرف قلوبهم له حتى يتوقف رضاهم عليه ، وأما كونه سعادة في نفسه فيعلم من حال كل من كان في كنف إنسان والد أو أستاذ أو قائد أو رئيس أو سلطان ، فإن علمه برضاه عنه يجعله في غبطة وهناء وطمأنينة قلب ، ويكون سروره وزهوه بذلك على قدر مقام رئيسه الراضي عنه ، على حد البيت الذي يتمثل به الصوفية :


                          قوم تخالجهم زهو بسيدهم والعبد يزهى على مقدار مولاه

                          .

                          على أن مرضاة رؤساء الدنيا لا يستلزم رضاء المرءوسين دائما; لأن منهم الظالمين الذين لا يوفون أحدا حقه وإن كانوا راضين عنه ، ورضوان أكرم الأكرمين يستلزم رضا من رضي هو عنه لأنه يعطيه أضعاف ما يستحق ، وفوق ما يؤمل ويرجو ، كما قال تعالى في سورة آلم السجدة : ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ) ( 32 : 17 ) ورضوانه تعالى فوق كل شيء كما قال في سورة التوبة بمعنى ما هنا : ( وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم ) ( 9 : 72 ) . [ ص: 229 ] والفوز : الظفر بالمطلوب مع النجاة من ضده . أو مما يحول دونه وقال الراغب : الفوز الظفر بالخير مع حصول السلامة فمعناه مركب من سلب وإيجاب ، كما يدل عليه قوله تعالى : ( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ) ( 3 : 185 ) وإطلاقه على الظفر بالمطلوب وحده كما في الآية التي نفسرها وآية التوبة التي بمعناها وما يشابهها مراعى فيه المعنى السلبي بالقرائن الحالية ، كما يقال في الجيش الذي يغلب عدوه ويظفر بالغنائم منه ! إنه فاز ، وهو إذا نال مراده من هدم قلعة ودك حصن فهلك تحت أنقاضه فلا يقال إنه قد فاز ، وإذا كان المهم في الفوز المعنى الإيجابي يعدى بالباء فيقال : فاز بكذا ، وإذا كان المهم بيان المعنى السلبي يعدى بمن فيقال : فاز من الهلاك قال تعالى : ( فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ) ( 3 : 188 ) وإنما سميت الفلاة مفازة على سبيل التفاؤل لأنها مظنة بالهلاك .

                          والإشارة في قوله تعالى : ( ذلك الفوز العظيم ) إلى كل من النعيمين الجثماني والروحاني اللذين يحصلان بعد النجاة من أهوال يوم القيامة . وقيل : إنه للثاني فقط ، والأول أصح لأنه الأكمل ولأن مثل هذا الإطلاق ورد في إثر إطلاق الجزاء بالجنة وحدها في آيتين من سورة التوبة غير الآية التي أوردناها آنفا ، وفي إثر إطلاق الجزاء بالجنة مع النجاة من عذاب النار كما تراه في آخر سورة الدخان ، وفي معناه ما في سورة المؤمن والحديد والصف والتغابن ، فإن ذكر المغفرة فيها يتضمن معنى النجاة من عذاب النار . فنسأل الله الكريم الرحمن الرحيم ، أن يجعلنا من أهل هذا الفوز العظيم ، بفضله وإحسانه ، وتوفيقنا لأسباب مرضاته .

                          ثم ختم جل جلاله هذه السورة بقوله : ( لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير ) وهو مناسب لما قبله مباشرة ومناسب لأن يكون ختاما لمجموع ما في هذه السورة . أما الأول : فلما بين ما لأهل الصدق عنده من الجزاء الحق في مقعد الصدق ، بين عقبه سعة ملكه وعموم قدرته الدالين على كون ذلك الجزاء لا يقدر عليه غيره . وأما الثاني : فلما كان أكثر آيات هذه السورة في محاجة أهل الكتاب عامة ، وبسط الحجج على بطلان أقوال النصارى في نبيهم خاصة ، وسائرها في بيان أحكام الحلال والحرام ، مع النص على إكمال الدين بالقرآن ، وعلى وحدة الدين الإلهي واختلاف الشرائع والمناهج للأمم ولما كان كل من ذينك القسمين في الأصول والفروع قد تكرر فيه الوعد والوعيد ، وقفى عليهما بذكر جمع الله تعالى للرسل يوم القيامة وسؤالهم عن التبليغ ، وجواب أحدهم الدال على شهادتهم على أقوامهم بالحق ، وتفويض أمرهم إلى الله عز وجل .

                          لما كان ما ذكر كما ذكر ناسب أن نختم هذه السورة ببيان كون الملك كله والقدرة كلها لله وحده وأن ملك السماوات والأرض وما فيهن لله وحده ، كما يدل عليه تقديم الظرف وهو خبر المبتدأ وقد اختيرت كلمة " ما " في قوله " وما فيهن " على " من " الخاصة بمن يعقل ، وهو الذي من شأنه أن يملك; لأن مدلولها أعم وأشمل ، وللإشارة [ ص: 230 ] إلى أن يوم الجزاء الحق يستوي فيه من يعقل ومن لا يعقل ، فلا يملك معه أحد شيئا ، لا حقيقة ولا مجازا ، ويدخل في ذلك المسيح وأمه اللذان عبدا من دون الله ، فيتضمن الحصر التعريض بعبادتهما ، وبالاتكال على شفاعتهما ، إذ الملك والقدرة لله وحده ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) ( 2 : 255 ) وغاية الأمر أنهما من عباد الله المكرمين ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين ) ( 21 : 26 29 ) . صدق الله العلي العظيم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية