الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر ) واعلم أنه تعالى أمره في هذه الآية بثلاثة أشياء :

                                                                                                                                                                                                                                            أولها : بالعفو عنهم وفيه مسائل .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : أن كمال حال العبد ليس إلا في أن يتخلق بأخلاق الله تعالى ، قال عليه السلام : " تخلقوا بأخلاق الله " ثم إنه تعالى لما عفا عنهم في الآية المتقدمة أمر الرسول أيضا أن يعفو عنهم ليحصل للرسول عليه السلام فضيلة التخلق بأخلاق الله .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" : ( فاعف عنهم ) فيما يتعلق بحقك ( واستغفر لهم ) فيما يتعلق بحق الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : ظاهر الأمر للوجوب ، والفاء في قوله تعالى : ( فاعف عنهم ) يدل على التعقيب ، فهذا يدل على أنه تعالى أوجب عليه أن يعفو عنهم في الحال ، وهذا يدل على كمال الرحمة الإلهية حيث عفا هو عنهم ، ثم أوجب على رسوله أن يعفو في الحال عنهم .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن قوله : ( فاعف عنهم ) إيجاب للعفو على الرسول عليه السلام ، ولما آل الأمر إلى الأمة لم يوجبه عليهم ، بل ندبهم إليه فقال تعالى : ( والعافين عن الناس ) ليعلم أن حسنات الأبرار سيئات المقربين .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : قوله تعالى : ( واستغفر لهم ) وفي الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : في هذه الآية دلالة قوية على أنه تعالى يعفو عن أصحاب الكبائر ، وذلك لأن الانهزام في وقت المحاربة كبيرة لقوله تعالى : ( ومن يولهم يومئذ دبره ) إلى قوله : ( فقد باء بغضب من الله ) [الأنفال : 16] فثبت أن انهزام أهل أحد كان من الكبائر ، ثم إنه تعالى نص في الآية المتقدمة على أنه عفا عنهم وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بالعفو عنهم ، ثم أمره بالاستغفار لهم ، وذلك من أدل الدلائل على ما ذكرنا .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قوله تعالى : ( واستغفر لهم ) أمر له بالاستغفار لأصحاب الكبائر ، وإذا أمره بطلب المغفرة لا يجوز أن لا يجيبه إليه ؛ لأن ذلك لا يليق بالكريم ، فدلت هذه الآية على أنه تعالى يشفع محمدا صلى الله عليه وسلم في الدنيا في حق أصحاب الكبائر ، فبأن يشفعه في حقهم في القيامة كان أولى .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 54 ] المسألة الثالثة : أنه سبحانه وتعالى عفا عنهم أولا بقوله : ( ولقد عفا الله عنهم ) [آل عمران : 155] ثم أمر محمدا صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بالاستغفار لهم ولأجلهم ، كأنه قيل له : يا محمد استغفر لهم فإني قد غفرت لهم قبل أن تستغفر لهم ، واعف عنهم فإني قد عفوت عنهم قبل عفوك عنهم ، وهذا يدل على كمال رحمة الله لهذه الأمة .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : قوله تعالى : ( وشاورهم في الأمر ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : يقال : شاورهم مشاورة وشوارا ومشورة ، والقوم شورى ، وهي مصدر سمي القوم بها كقوله : ( وإذ هم نجوى ) [الإسراء : 47] قيل : المشاورة مأخوذة من قولهم : شرت العسل أشوره إذا أخذته من موضعه واستخرجته وقيل مأخوذة من قولهم : شرت الدابة شورا إذا عرضتها ، والمكان الذي يعرض فيه الدواب يسمى مشوارا ، كأنه بالعرض يعلم خيره وشره ، فكذلك بالمشاورة يعلم خير الأمور وشرها .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : الفائدة في أنه تعالى أمر الرسول بمشاورتهم وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن مشاورة الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم توجب علو شأنهم ورفعة درجتهم ، وذلك يقتضي شدة محبتهم له وخلوصهم في طاعته ، ولو لم يفعل ذلك لكان ذلك إهانة بهم فيحصل سوء الخلق والفظاظة .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أنه عليه السلام وإن كان أكمل الناس عقلا إلا أن علوم الخلق متناهية ، فلا يبعد أن يخطر ببال إنسان من وجوه المصالح ما لا يخطر بباله ، لا سيما فيما يفعل من أمور الدنيا فإنه عليه السلام قال : " أنتم أعرف بأمور دنياكم وأنا أعرف بأمور دينكم " ولهذا السبب قال عليه السلام : " ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم " .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : قال الحسن وسفيان بن عيينة إنما أمر بذلك ليقتدي به غيره في المشاورة ويصير سنة في أمته .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : أنه عليه السلام شاورهم في واقعة أحد فأشاروا عليه بالخروج ، وكان ميله إلى أن يخرج ، فلما خرج وقع ما وقع ، فلو ترك مشاورتهم بعد ذلك لكان ذلك يدل على أنه بقي في قلبه منهم بسبب مشاورتهم بقية أثر . فأمره الله تعالى بعد تلك الواقعة بأن يشاورهم ليدل على أنه لم يبق في قلبه أثر من تلك الواقعة .

                                                                                                                                                                                                                                            الخامس : وشاورهم في الأمر ، لا لتستفيد منهم رأيا وعلما ، لكن لكي تعلم مقادير عقولهم وأفهامهم ومقادير حبهم لك وإخلاصهم في طاعتك فحينئذ يتميز عندك الفاضل من المفضول فبين لهم على قدر منازلهم .

                                                                                                                                                                                                                                            السادس : وشاورهم في الأمر لا لأنك محتاج إليهم ، ولكن لأجل أنك إذا شاورتهم في الأمر اجتهد كل واحد منهم في استخراج الوجه الأصلح في تلك الواقعة ، فتصير الأرواح متطابقة متوافقة على تحصيل أصلح الوجوه فيها ، وتطابق الأرواح الطاهرة على الشيء الواحد مما يعين على حصوله ، وهذا هو السر عند الاجتماع في الصلوات . وهو السر في أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد .

                                                                                                                                                                                                                                            السابع : لما أمر الله محمدا عليه السلام بمشاورتهم دل ذلك على أن لهم عند الله قدرا وقيمة ، فهذا يفيد أن لهم قدرا عند الله وقدرا عند الرسول وقدرا عند الخلق .

                                                                                                                                                                                                                                            الثامن : الملك العظيم لا يشاور في المهمات العظيمة إلا خواصه والمقربين عنده ، فهؤلاء لما أذنبوا عفا الله عنهم ، فربما خطر ببالهم أن الله تعالى وإن عفا عنا بفضله إلا أنه ما بقيت لنا تلك الدرجة العظيمة ، فبين الله تعالى أن تلك الدرجة ما انتقصت بعد التوبة ، بل أنا أزيد فيها ، وذلك أن قبل هذه الواقعة ما أمرت رسولي بمشاورتكم ، وبعد هذه الواقعة أمرته بمشاورتكم ، لتعلموا أنكم الآن أعظم حالا مما كنتم قبل ذلك ، والسبب فيه أنكم قبل هذه الواقعة كنتم تعولون على أعمالكم وطاعتكم ، والآن تعولون على فضلي وعفوي ، فيجب أن تصير درجتكم ومنزلتكم الآن أعظم مما كان قبل ذلك ، لتعلموا أن عفوي أعظم من عملكم ، وكرمي أكثر من طاعتكم .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجوه الثلاثة الأول مذكورة ، والبقية مما خطر ببالي عند هذا الموضع والله أعلم بمراده وأسرار كتابه .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 55 ]

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : اتفقوا على أن كل ما نزل فيه وحي من عند الله لم يجز للرسول أن يشاور فيه الأمة ؛ لأنه إذا جاء النص بطل الرأي والقياس ، فأما ما لا نص فيه فهل تجوز المشاورة فيه في جميع الأشياء أم لا ؟ قال الكلبي وكثير من العلماء : هذا الأمر مخصوص بالمشاورة في الحروب وحجته أن الألف واللام في لفظ "الأمر" ليسا للاستغراق ، لما بين أن الذي نزل فيه الوحي لا تجوز المشاورة فيه ، فوجب حمل الألف واللام هاهنا على المعهود السابق ، والمعهود السابق في هذه الآية إنما هو ما يتعلق بالحرب ولقاء العدو ، فكان قوله : ( وشاورهم في الأمر ) مختصا بذلك ، ثم قال القائلون بهذا القول : قد أشار الحباب بن المنذر يوم بدر على النبي صلى الله عليه وسلم بالنزول على الماء فقبل منه ، فأشار عليه السعدان : سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، يوم الخندق بترك مصالحة غطفان على بعض ثمار المدينة لينصرفوا ، فقبل منهما وخرق الصحيفة ، ومنهم من قال : اللفظ عام خص عنه ما نزل فيه وحي فتبقى حجته في الباقي ، والتحقيق في القول أنه تعالى أمر أولي الأبصار بالاعتبار فقال : ( فاعتبروا ياأولي الأبصار ) [الحشر : 2] وكان عليه السلام سيد أولي الأبصار ، ومدح المستنبطين فقال : ( لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) [النساء : 83] وكان أكثر الناس عقلا وذكاء ، وهذا يدل على أنه كان مأمورا بالاجتهاد إذا لم ينزل عليه الوحي ، والاجتهاد يتقوى بالمناظرة والمباحثة فلهذا كان مأمورا بالمشاورة . وقد شاورهم يوم بدر في الأسارى وكان من أمور الدين ، والدليل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس أن النص كان لعامة الملائكة في سجود آدم ، ثم إن إبليس خص نفسه بالقياس وهو قوله : ( خلقتني من نار وخلقته من طين ) [الأعراف : 12] فصار ملعونا ، فلو كان تخصيص النص بالقياس جائزا لما استحق اللعن بهذا السبب .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : ظاهر الأمر للوجوب فقوله : ( وشاورهم ) يقتضي الوجوب ، وحمل الشافعي رحمه الله ذلك على الندب فقال هذا كقوله عليه الصلاة والسلام : " البكر تستأمر في نفسها " ولو أكرهها الأب على النكاح جاز ، لكن الأولى ذلك تطييبا لنفسها فكذا هاهنا .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : روى الواحدي في الوسيط عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قال : الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمشاورته في هذه الآية أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، وعندي فيه إشكال ؛ لأن الذين أمر الله رسوله بمشاورتهم في هذه الآية هم الذين أمره بأن يعفو عنهم ويستغفر لهم وهم المنهزمون ، فهب أن عمر كان من المنهزمين فدخل تحت الآية ، إلا أن أبا بكر ما كان منهم فكيف يدخل تحت هذه الآية ؟ والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية