الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            الرابع عشر : الذهن وهو قوة النفس على اكتساب العلوم التي هي غير حاصلة ، وتحقيق القول فيه أنه سبحانه وتعالى خلق الروح خاليا عن تحقيق الأشياء ، وعن العلم بها كما قال تعالى : ( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا ) لكنه سبحانه وتعالى إنما خلقها للطاعة على ما قال تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [الذاريات : 56] والطاعة مشروطة بالعلم ، وقال في موضع آخر : ( وأقم الصلاة لذكري ) [طه : 14] فبين أنه أمر بالطاعة لغرض العلم ، والعلم لا بد منه على كل حال فلا بد وأن تكون النفس متمكنة من تحصيل هذه المعارف والعلوم فأعطاه الحق سبحانه من الحواس ما أعان على تحصيل هذا الغرض ، فقال في السمع : ( وهديناه النجدين ) [البلد : 10] وقال في البصر : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ) [فصلت : 53] وقال في الفكر : ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) [الذاريات : 21] فإذا تطابقت هذه القوى صار الروح الجاهل عالما وهو معنى قوله تعالى : ( الرحمن علم القرآن ) [الرحمن : 1 ، 2] فالحاصل أن استعداد النفس لتحصيل هذه المعارف هو الذهن .

                                                                                                                                                                                                                                            الخامس عشر : الفكر وهو انتقال الروح من التصديقات الحاضرة إلى التصديقات المستحضرة ، قال بعض المحققين : إن الفكر يجري مجرى التضرع إلى الله تعالى في استنزال العلوم من عنده .

                                                                                                                                                                                                                                            السادس عشر : الحدس : ولا شك أن الفكر لا يتم عمله إلا بوجدان شيء يتوسط بين طرفي المجهول لتصير النسبة المجهولة معلومة ، فإن النفس حال كونها جاهلة كأنها واقفة في ظلمة ولا بد لها من قائد يقودها وسائق يسوقها وذلك هو المتوسط بين الطرفين وله إلى كل واحد منهما نسبة خاصة فيتولد من نسبته إليهما مقدمتان فكل مجهول لا يحصل العلم به إلا بواسطة مقدمتين معلومتين ، والمقدمتان هما كالشاهدين فكما أنه [ ص: 190 ] لا بد في الشرع من شاهدين فكذا لا بد في العقل من شاهدين وهما المقدمتان اللتان تنتجان المطلوب ، فاستعداد النفس لوجدان ذلك المتوسط هو الحدس .

                                                                                                                                                                                                                                            السابع عشر : الذكاء وهو شدة الحدس وكماله وبلوغه الغاية القصوى وذلك لأن الذكاء هو المضاء في الأمر وسرعة القطع بالحق وأصله من ذكت النار وذكت الريح وشاة مذكاة أي مدرك ذبحها بحدة السكين .

                                                                                                                                                                                                                                            الثامن عشر : الفطنة وهي عبارة عن التنبه لشيء قصد تعريضه ولذلك فإنه يستعمل في الأكثر في استنباط الأحاجي والرموز .

                                                                                                                                                                                                                                            التاسع عشر : الخاطر وهو حركة النفس نحو تحصيل الدليل وفي الحقيقة ذلك المعلوم هو الخاطر بالبال والحاضر في النفس ، ولذلك يقال : هذا خطر ببالي إلا أن النفس لما كانت محلا لذلك المعنى الخاطر جعلت خاطرا ؛ إطلاقا لاسم الحال على المحل .

                                                                                                                                                                                                                                            العشرون : الوهم وهو الاعتقاد المرجوح ، وقد يقال : إنه عبارة عن الحكم بأمور جزئية غير محسوسة لأشخاص جزئية جسمانية كحكم السخلة بصداقة الأم وعداوة المؤذي .

                                                                                                                                                                                                                                            الحادي والعشرون : الظن وهو الاعتقاد الراجح ، ولما كان قبول الاعتقاد للقوة والضعف غير مضبوط فكذا مراتب الظن غير مضبوطة فلهذا قيل إنه عبارة عن ترجيح أحد طرفي المعتقد في القلب على الآخر مع تجويز الطرف الآخر ، ثم إن الظن المتناهي في القوة قد يطلق عليه اسم العلم فلا جرم قد يطلق أيضا على العلم اسم الظن كما قال بعض المفسرين في قوله تعالى : ( الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ) [البقرة : 46] قالوا : إنما أطلق لفظ الظن على العلم ههنا لوجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : التنبيه على أن علم أكثر الناس في الدنيا بالإضافة إلى علمه في الآخرة كالظن في جنب العلم .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن العلم الحقيقي في الدنيا لا يكاد يحصل إلا للنبيين والصديقين الذين ذكرهم الله تعالى في قوله تعالى : ( الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا ) [الحجرات : 15] واعلم أن الظن إن كان عن أمارة قوية قبل ومدح ، وعليه مدار أكثر أحوال هذا العلم ، وإن كان عن أمارة ضعيفة ذم كقوله تعالى : ( إن الظن لا يغني من الحق شيئا ) [يونس : 36] وقوله : ( إن بعض الظن إثم ) [الحجرات : 12] .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني والعشرون : الخيال وهو عبارة من الصورة الباقية عن المحسوس بعد غيبته ، ومنه الطيف الوارد من صورة المحبوب خيالا ، والخيال قد يقال لتلك الصورة في المنام وفي اليقظة ، والطيف لا يقال إلا فيما كان في حال النوم .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث والعشرون : البديهة وهي المعرفة الحاصلة ابتداء في النفس لا بسبب الفكر كعلمك بأن الواحد نصف الاثنين .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع والعشرون : الأوليات وهي البديهيات بعينها والسبب في هذه التسمية أن الذهن يلحق محمول القضية بموضوعها أولا لا بتوسط شيء آخر ، فأما الذي يكون بتوسط شيء آخر ، فذاك المتوسط هو المحمول أولا .

                                                                                                                                                                                                                                            الخامس والعشرون : الروية ، وهي ما كان من المعرفة بعد فكر كثير ، وهي من روى .

                                                                                                                                                                                                                                            السادس والعشرون : الكياسة ، وهي تمكن النفس من استنباط ما هو أنفع ، ولهذا قال عليه الصلاة [ ص: 191 ] والسلام : الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، من حيث إنه لا خير يصل إليه الإنسان أفضل مما بعد الموت .

                                                                                                                                                                                                                                            السابع والعشرون : الخبرة ، وهي معرفة يتوصل إليها بطريق التجربة ، يقال : خبرته ، قال أبو الدرداء : وجدت الناس أخبر تقله ، وقيل : هو من قولهم : ناقة خبرة ، أي غزيرة اللبن ، فكان الخبر هو غزارة المعرفة ، ويجوز أن يكون قولهم : ناقة خبرة : هي المخبر عنها بغزارتها .

                                                                                                                                                                                                                                            الثامن والعشرون : الرأي ، وهو إحاطة الخاطر في المقدمات التي يرجى منها إنتاج المطلوب ، وقد يقال للقضية المستنتجة من الرأي رأي ، والرأي للفكر كالآلة للصانع ، ولهذا قيل : إياك والرأي الفطير ، وقيل : دع الرأي تصب .

                                                                                                                                                                                                                                            التاسع والعشرون : الفراسة وهي الاستدلال بالحق الظاهر على الخلق الباطن ، وقد نبه الله تعالى على صدق هذا الطريق بقوله تعالى : ( إن في ذلك لآيات للمتوسمين ) [الحجر : 75] وقوله تعالى : ( تعرفهم بسيماهم ) [البقرة : 273] وقوله تعالى : ( ولتعرفنهم في لحن القول ) [محمد : 30] واشتقاقها من قولهم : فرس السبع الشاة ، فكأن الفراسة اختلاس المعارف ، وذلك ضربان : ضرب يحصل للإنسان عن خاطره ولا يعرف له سبب ، وذلك ضرب من الإلهام بل ضرب من الوحي ، وإياه عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " إن في أمتي لمحدثين ، وإن عمر لمنهم " ويسمى ذلك أيضا النفث في الروع ، والضرب الثاني من الفراسة ما يكون بصناعة متعلمة وهي الاستدلال بالأشكال الظاهرة على الأخلاق الباطنة وقال أهل المعرفة في قوله تعالى : ( أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ) [هود : 17] إن البينة هو القسم الأول وهو إشارة إلى صفاء جوهر الروح والشاهد هو القسم الثاني وهو الاستدلال بالأشكال على الأحوال .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة التاسعة : قوله تعالى : ( وعلم آدم الأسماء كلها ) وقوله : ( لا علم لنا إلا ما علمتنا ) وقوله : ( الرحمن علم القرآن ) [الرحمن : 1 ، 2] لا يقتضي وصف الله تعالى بأنه معلم لأنه حصل في هذه اللفظة تعارف على وجه لا يجوز إطلاقه عليه وهو من يحترف بالتعليم والتلقين ، وكما لا يقال للمدرس معلم مطلقا حتى لو أوصى للمتعلمين لا يدخل فيه المدرس فكذا لا يقال لله إنه معلم إلا مع التقييد ، ولولا هذا التعارف لحسن إطلاقه عليه بل كان يجب أن لا يستعمل إلا فيه تعالى ؛ لأن المعلم هو الذي يحصل العلم في غيره ولا قدرة على ذلك لأحد إلا الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية