الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأيضا فإن المحالات التي أفضى إليها دليلهم غير المحال الذي أفضى إليه دليل الكتاب، وذلك أن المحال الذي أفضى إليه دليلهم هو أن يكون العالم: إما لا موجودا ولا معدوما، وإما أن يكون موجودا ومعدوما، وإما أن يكون الإله عاجزا مغلوبا. وهذه مستحيلات دائمة الاستحالة أكثر من واحد. والمحال الذي أفضى إليه دليل الكتاب ليس مستحيلا على الدوام، وإنما علقت الاستحالة فيه في وقت مخصوص، وهو أن يوجد العالم فاسدا في وقت الوجود، فكأنه قال: (لو كان فيهما آلهة إلا الله) لوجد العالم فاسدا في الآن، ثم استثنى أنه غير فاسد، فوجب ألا يكون هناك إله إلا واحد.

قلت: الفساد المذكور في الآية لم يوقت بوقت مخصوص، والفساد ليس هو امتناع الوجود الذي يقدر عند تمانع الفاعلين، إذا أراد أحدهما شيئا وأراد الآخر نقيضه، ولا هو أيضا امتناع الفعل الذي يقدر عن كون المفعول الواحد لفاعلين، فإن هذا كله يقتضي عدم الوجود. [ ص: 372 ]

وأما الفساد فهو ضد الصلاح، كما قال تعالى: وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون [سورة البقرة: 11].

وقال تعالى: وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين [سورة الأعراف: 142].

وقال: ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها [سورة الأعراف: 56].

وقال: وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد [سورة البقرة: 205].

وقال: من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا [سورة المائدة: 32].

وقالت الملائكة: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء [سورة البقرة: 30].

وقال تعالى: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا [سورة المائدة: 33].

وقال: ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون [سورة المؤمنون: 71].

وجماع الصلاح للآدميين هو طاعة الله ورسوله، وهو فعل ما ينفعهم وترك ما يضرهم، والفساد بالعكس.

فصلاح الشيء هو حصول كماله الذي به تحصل سعادته. وفساده بالعكس، والخلق صلاحهم وسعادتهم [ ص: 373 ] في أن يكون الله هو معبودهم، الذي تنتهي إليه محبتهم وإرادتهم، ويكون ذلك غاية الغايات، ونهاية النهايات.

ولهذا كان كل عمل يعمل لغير الله لا ينفع صاحبه بل قد يضره، وكانت أعمال الذين كفروا: كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء [سورة إبراهيم: 18].

قال تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [سورة الذاريات: 56].

فعبادته هي الغاية التي فيها صلاحهم، فإن الإنسان حارث همام. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أصدق الأسماء الحارث وهمام» والحارث هو الكاسب، والهمام هو الذي يكثر الهم، الذي هو أول الإرادة، فالإنسان متحرك بالإرادة، وكل مريد لا بد له من مراد. والذي يجب أن يكون هو المراد المقصود بالحركات هو الله، فصلاح النفوس وسعادتها وكمالها في ذلك، وهكذا العالم العلوي أيضا.

التالي السابق


الخدمات العلمية