الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن أعجب خذلان المخالفين للسنة وتضعيفهم للحجة إذا نصر بها حق ، وتقويتها إذا نصر بها باطل : أن حجة الفلاسفة على التوحيد قد أبطلها لما استدلوا بها على أن الإله واحد ، والمدلول حق لا ريب فيه ، وإن قدر ضعف الحجة ، ثم إنه يحتج بها بعينها على نفي لوازم علو الله على خلقه ، بل ما يستلزم تعطيل ذاته فيجعلها حجة فيما يستلزم التعطيل ، ويبطلها إذا احتج بها على التوحيد .

وأيضا فما ذكره في إبطال هذه الحجة يبطل الوجه الأول أيضا ، فإنه إذا لم يمتنع واجبان بأنفسهما ، فأن لا يمتنع جزآن كل منهما واجب بنفسه بطريق الأولى والأحرى .

واعلم أن الوجهين اللذين أبطلا بهما الحجة : أحدهما منع كون الوجوب أمرا ثبوتيا ، والثاني المعارضة : أما المعارضة ، فواردة على هؤلاء الفلاسفة ، لا مندوحة لهم عنها . ومعارضة الشهرستاني والرازي -وأظن [ ص: 253 ] الغزالي- أجود من معارضة الآمدي، ومن اعتذر عن ذلك بأن الواجب لفظ مشترك لزم بطلان توحيد الفلاسفة بطريق الأولى ، فإنه لا محذور حينئذ في إثبات أمور متعددة كل منها يقال له واجب الوجود بمعنى غير ما يقال للآخر .

فبكل حال يلزم : إما لزوم التركيب ، وإما بطلان توحيدهم وأيهما كان لازما لزم الآخر، فإنه إذا لزم التركيب بطل توحيدهم ، وإذا بطل توحيدهم أمكن تعدد الواجب ، وهذا يبطل امتناع التركيب .

ولا ريب أن أصل كلامهم ، بل وكلام نفاة العلو والصفات ، مبني على إبطال التركيب وإثبات بسيط كلي مطلق مثل الكليات ، وهذا الذي يثبتونه لا يوجد إلا في الأذهان ، والذي أبطلوه هو لازم لكل الأعيان ، فأثبتوا ممتنع الوجود في الخارج ، وأبطلوا واجب الوجود في الخارج .

ونحن نبين بطلان ذلك بغير ما ذكره هؤلاء : فنقول : قول القائل:"إما أن يقال باتفاقهما من كل وجه،أو اختلافهما من كل وجه، أو اتفاقهما من وجه دون وجه". إن أريد به أنهما يتفقان في شيء بعينه موجود في الخارج ، ولكن يشتبهان من بعض الوجوه ، مع أن كلا منهما مختص بما قام به نفسه، كالبياضين أو الأبيضين المشتبهين ، مع أنه [ ص: 254 ] ليس في أحدهما شيء مما في الآخر ، وإن أراد بقوله :"أو اختلافهما من كل وجه" أنهما لا يشتبهان في شيء ما ، ولا يشتركان في شيء ما ، فليس في الوجود شيئان إلا بينهما اشتراك في شيء وتشابه في شيء ما ، ولو أنه مسمى الوجود، وإن أراد امتياز أحدهما عن الآخر فكل منهما ممتاز عن الآخر من [كل] وجه ، وإن كانا مشتركين في أشياء، بمعنى اشتباههما لا بمعنى أن في الخارج شيئا بعينه اشتركا فيه كما يشترك الشركاء في العقار .

وإذا عرف أن هذه الألفاظ مجملة فنقول: هما مشتبهان مشتركان في وجوب الوجود ، كما أن كل متفقين في اسم متواطئ بالمعنى العام ، سواء كان متماثلا وهو التواطؤ الخاص ، أو مشككا وهو المقابل للتواطؤ الخاص ، كالموجودين، والحيوانين ، والإنسانين، والسوادين، اشتركا في مسمى اللفظ الشامل لهما مع أن كلا منهما متميز في الخارج عن الآخر من كل وجه، فهما لم يشتركا في أمر يختص بأحدهما ، بل وجود هذا يخصه ووجود هذا يخصه ، وإنما اشتركا في مطلق الوجود . [ ص: 255 ]

والوجود المطلق المشترك الكلي لا يكون كليا لا في هذا ، ولا في هذا ، بل هو كلي في الأذهان ، مختص في الأعيان . وإذا قيل :"الكلي الطبيعي موجود" فمعناه أن ما كان كليا في الذهن يوجد في الخارج ، لكن لا يتصور إذا وجد أن يكون كليا ، كما يقال العام موجود في الخارج ، وهو لا يوجد عاما .

وقوله : "إما أن يختلفا من كل وجه أو يتفقا من كل وجه" .

قلنا : إذا أريد بالاختلاف ضد الاشتباه ، فقد يقال : ليسا مختلفين من كل وجه . وإن أريد الامتياز فهما مختلفان من كل وجه .

وقوله : "إذا كانا متفقين من كل وجه زال الامتياز" يصح إذا أريد بالاختلاف ضد الامتياز ، فإنهما إذا لم يتميز أحدهما عن الآخر بوجه بطل الامتياز، وأما إذا أريد بالاتفاق التشابه والتماثل فقد يكونان متماثلين من كل وجه كتماثل أجزاء الماء الواحد .

والتماثل لا يوجب أن يكون أحد المثلين هو الآخر ، بل لا بد أن يكون غيره . [ ص: 256 ]

وحينئذ فقوله : "ما به الاشتراك غير ما به الامتياز" .

قلنا : لم يشتركا في شيء خارجي حتى يحوجهما اشتراكهما فيه إلى الامتياز ، بل هما ممتازان بأنفسهما ، وإنما تشابها أو تماثلا في شيء ، والمتماثلان لا يحوجهما التماثل إلى مميز بين عينيهما ، بل كل منهما ممتاز عن الآخر بنفسه .

وقوله : "ما به الاشتراك : إما وجوب الوجود ، أو غيره" .

قلنا : كل منهما مختص بوجوب وجوده الذي يخصه ، كما هو مختص بسائر صفاته التي تخص نفسه ، وهو أيضا مشابه الآخر في وجوب الوجود ، فما اشتركا فيه من الكلي لا يقبل الاختصاص ، وما اختص به كل منهما عن الآخر لا يقبل الاشتراك ، فضلا عن أن يكون ما اشتركا فيه محتاجا إلى مخصص ، وما اختص به كل منهما يقاربه فيه مشترك . وحينئذ فالاشتراك في وجوب الوجود المشترك ، والامتياز بوجوب الوجود المختص ، والاشتراك أيضا في كل مشترك ، والامتياز بكل مختص .

التالي السابق


الخدمات العلمية