الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما القسم الرابع : وهو قدم أعيانها لا أنواعها ، فهذا لا يقوله عاقل. وعلى التقديرين فإما أن يمكن اجتماعها ، وإما أن لا يمكن . فهذه خمسة أقسام .

وأيضا فإذا أمكن الاجتماع ، فإما أن يكون بقاؤها ممكنا ، وإما أن لا يكون. فالقول المذكور عن الكرامية يتضمن حدوث أعيانها وأنواعها ، لكن مع إمكان اجتماعها وبقائها بعد الحدوث، وهذا قول من أقوال متعددة .

وبإزاء ذلك من يقول : يجب حدوثها ويمتنع بقاؤها: إما مع إمكان الاجتماع، وإما مع عدم إمكان الاجتماع .

ومن يقول: يجب قدم نوعها لا قدم أعيانها، قد يقول بإمكان الاجتماع، وقد لا يقول .

والناس متنازعون في تكليم الله لعباده : هل هو مجرد خلق إدراك لهم من غير تجدد تكليم من جهته ؟ أم لا بد من تجدد تكليم من جهته؟ على قولين للمنتسبين إلى السنة وغيرهم، من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم . [ ص: 129 ]

فالأول : قول الكلابية والسالمية ، ومن وافقهم من أصحاب هؤلاء الأئمة القائلين بأن الكلام لا يتعلق بمشيئته وقدرته ، بل هو بمنزلة الحياة .

والثاني : قول الأكثرين من أهل الحديث والسنة من أصحاب هؤلاء الأئمة وغيرهم. وهو قول أكثر أهل الكلام من المرجئة والشيعة والكرامية والمعتزلة وغيرهم .

قالوا : ونصوص الكتاب والسنة تدل على هذا القول ، ولهذا فرق الله بين إيحائه وتكليمه ، كما ذكر في سورة النساء وسورة الشورى .

والأحاديث التي جاءت بأنه يكلم عباده يوم القيامة ويحاسبهم، وأنه إذا قضى أمرا في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان، إلى غير ذلك مما يطول ذكره .

وإذا كان كذلك امتنع أن لا يقوم كلام الله به ، فإنه يلزم أن لا يكون كلامه ، بل كلام من قام به ، كما قد قرر في موضعه .

والله سبحانه يحاسب الخلق في ساعة واحدة ، لا يشغله حساب هذا عن حساب هذا. وكذلك إذا ناجوه ودعوه أجابهم ، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، نصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل . فإذا قال [العبد] : الحمد لله رب العالمين . قال الله: حمدني عبدي. فإذا قال : الرحمن الرحيم . قال الله: أثنى علي عبدي . فإذا قال : مالك يوم الدين. قال : مجدني عبدي. فإذا [ ص: 130 ] قال : إياك نعبد وإياك نستعين . قال : هذه الآية بيني وبين عبدي نصفين ، ولعبدي ما سأل . فإذا قال : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. قال : هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل .

فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يقول هذا لكل مصل ، والناس يصلون في ساعة واحدة، والله تعالى يقول لكل منهم هذا .

وقد روي أن ابن عباس قيل له : كيف يحاسب الله الخلق في ساعة واحدة؟ فقال : كما يرزقهم في ساعة واحدة. وأمثال ذلك كثير .

وحينئذ فمن قال : إن هذه أقوال قائمة بنفسه تتعلق بمشيئته وقدرته، يلزمه أحد أمرين: إما أن يقول باجتماعها في محل واحد ، وإما أن يقول : إن ذاته واسعة تسع هذه الأقوال كلها .

ونحن نعقل أن يقوم بالذات الواحدة حروف كثيرة في آن واحد ، وأصوات مجتمعة في آن واحد، لكن لا يكون هذا حيث هذا، إذ لا يعقل في الشاهد أنهما يجتمعان في محل واحد .

وقد يقال : إن مثل هذا يجيء على قول من يقول : إنه يقوم بذاته علوم لا نهاية لها ، وإرادات لا نهاية لها ، وقدر لا نهاية لها ، فإن ذلك كقيام أفعال وأقوال لا نهاية لها . وهذا على وجهين : فمن قال : [ ص: 131 ] إن ذلك يقوم به على سبيل التعاقب، فهو كمن يقول: إنه تقوم به الكلمات والأفعال على سبيل التعاقب .

ومن قال : إنها كلها أزلية ، كما تقوله طائفة يقولون : إنه تقوم به علوم لا نهاية لها في آن واحد ، كما يقوله أبو سهل الصعلوكي وغيره ، فإن هذا يشبه قول من يقول : تقوم به حروف لا نهاية لها في آن واحد .

لكن قد يقال : اجتماع العلوم بمعلومات ، والإرادات بمرادات ، قد يقال: إنه لا يتضاد كاجتماع معاني الكلام، بخلاف اجتماع حروف، فإنه كاجتماع أصوات ، واجتماع أصوات كاجتماع حركات .

التالي السابق


الخدمات العلمية