الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          وأما الوجه الثالث : فقد عقد له مسألة خاصة ( وهي المسألة الرابعة ) استغرقت خمس عشرة صفحة من الكتاب ، بين فيها بالأدلة والأمثلة والشواهد أنه لم يصح في السنة [ ص: 136 ] حكم لا أصل له في القرآن ، بل كل ما ورد في ذلك له أصل هو بيان له ، فليراجع ذلك من شاء .

                          أما المسلك الذي سلكه ( الشاطبي ) في إرجاع بعض الأحكام الثابتة في السنة إلى القرآن ; فهو أنه ذكر الأصول الكلية التي تدور عليها أحكام القرآن في جلب المصالح ودفع المفاسد من الضروريات والحاجات والتحسينات ، وبين أن كل ما في السنة راجع إليها ، وضرب الأمثلة في الضرورات الخمس الكلية ، وهي : حفظ الدين والنفس والمال والعقل والعرض ، وقال : " ويلحق بها مكملاتها والحاجات ، ويضاف إليها مكملاتها ، ولا زائد على هذه الثلاثة المقررة في كتاب المقاصد - أي من كتابه هذا - وإذا نظرنا إلى السنة وجدناها لا تزيد على تقرير هذه الأمور ; فالكتاب أتى بها أصولا يرجع إليها ، والسنة أتت بها تفريعا على الكتاب وبيانا لما فيه منها ، فلا تجد في السنة إلا ما هو راجع إلى تلك الأقسام .

                          ثم بين أن الحاجات تدور على قطب التوسعة والتيسير والرفق ورفع الحرج ، وأصل ذلك في القرآن ، وبيان السنة له بالعمل والقول ، وأن التحسينات كالحاجات ، فإنها ترجع إلى الآداب ومحاسن الأخلاق ، وأصلها في القرآن ، وبيان السنة لها كذلك بما هو أوضح في الفهم ، وأشفى في الشرح ، وبين مسلك السنة في الاجتهاد في القرآن والقياس على أصوله وعلله ; لحفظ مقاصدها وبيانها للناس وأخذ المعنى العام من مجموع أدلته المتفرقة ، وفقه مقاصده منها .

                          وقد أورد الشواهد على ذلك والأمثلة له ، مثال من ذلك قوله في أصل حفظ المال : وله أمثلة ، أحدها : أن الله ، عز وجل ، حرم الربا وربا الجاهلية الذي قالوا فيه : " إنما البيع مثل الربا " هو فسخ الدين في الدين ، يقول الطالب : إما أن تقضي ، وإما أن تربي . وهو الذي دل عليه أيضا في قوله : وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ( 2 : 279 ) فقال صلى الله عليه وسلم : " وربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله " وإذا كان كذلك ، وكان المنع فيه إنما هو من أجل كونه زيادة على غير عوض ، ألحقت السنة به كل ما فيه زيادة بذلك المعنى . وذكر حديث بيع الأصناف الستة سواء بسواء يدا بيد ، ومن أراد الاطلاع على أمثلة كل نوع مما ذكره فليرجع إلى كتابه .

                          وقال في أواخر هذه المسألة : ( فصل ) وقد ظهر مما تقدم الجواب عما أوردوا من الأحاديث التي قالوا : إن القرآن لم ينبه عليها ، فقوله صلى الله عليه وسلم : يوشك رجل منكم متكئ على أريكته إلى آخره ، لا يتناول ما نحن فيه ; فإن الحديث إنما جاء في من يطرح السنة معتمدا على رأيه في فهم القرآن ، وهذا لم ندعه في مسألتنا هذه ، بل هو رأي أولئك الخارجين [ ص: 137 ] عن الطريقة المثلى ، وقوله : " ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله " صحيح على الوجه المتقدم ، إما بتحقيق المناط الدائر بين الطرفين الواضحين والحكم عليه ، وإما بالطريقة القياسية ، وإما بغيرها من المآخذ المتقدمة . اهـ .

                          أقول : الحديث الذي ذكر بعضه اكتفاء بذكره كله في الحجج التي أوردها على قاعدته هو حديث المقدام بن معدي كرب ، رواه أحمد وابن ماجه والحاكم ، بلفظ : يوشك أن يقعد الرجل متكئا على أريكته يحدث من حديثي ، فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله ; فما وجدنا فيه من حلال استحللناه ، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله وسنده حسن ، فيه زيد بن الحباب ، قال فيه الإمام أحمد : إنه صدوق كثير الخطأ ، وذكره ابن حبان في الثقات ، ووصفه بكثرة الخطأ أيضا ، وتكلموا في أحاديث له عن سفيان تستغرب ، وقد تركه الشيخان لذلك ، واللفظ الآخر : لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري ; مما أمرت به أو نهيت عنه ، فيقول : لا ندري ، ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي رافع ، وقال الترمذي : حسن ، وذكر أن بعضهم رواه مرسلا .

                          ومن القواعد التي يجب مراعاتها في هذا الباب ما ينهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - من المباحات لكراهته لا لتحريمه ، أو للمنع منه مؤقتا لعلة عارضة ، ويوشك أن النهي عن أكل لحوم السباع من الأول ، وعن الحمر الأهلية مع الإذن بأكل الخيل يوم خيبر من الثاني ، لولا ما روي بلفظ التحريم ، ومثال العلة العارضة : قلة الشيء مع الحاجة إليه ، كما تنهى بعض الحكومات أحيانا عن بيع الخيل في أيام الحرب ، أو عن ذبح البقر لشدة الحاجة إليها في الفلاحة . وقد يرد الحديث بلفظين ; أحدهما : لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - والآخر : لفظ بمعناه بحسب فهم الراوي ، فقد روى مسلم ، وأصحاب السنن ما عدا الترمذي ، من حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كل ذي ناب من السباع ، ومخلب من الطير . وعن أبي هريرة أنه قال : كل ذي ناب من السباع فأكله حرام ، فيجوز أن يكون روى أحدهما بالمعنى ، فإن كان حديث أبي هريرة هو المروي بالمعنى يجوز حمل النهي على الكراهة ، فلا يكون الحديث معارضا لحصر المحرمات فيما حصرها فيه القرآن ، وفي معناه حديث أبي ثعلبة الخشني عند الجماعة ما عدا البخاري ، وأبا داود ، وله روايات أخرى ، ولعل مالكا كان يفهم منه هذا ، فقد روي عنه قول بكراهة أكل هذه الأشياء ، وقول بإباحتها ، وقد فات هذا صاحب الموافقات مع أنه من فقهاء مذهب مالك ، وسنعود إلى مسألة السباع في تفسير الآية الآتية .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية