الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وحدثني عن مالك عن يحيى بن سعيد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال سمعت أبا قتادة بن ربعي يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان فإذا رأى أحدكم الشيء يكرهه فلينفث عن يساره ثلاث مرات إذا استيقظ وليتعوذ بالله من شرها فإنها لن تضره إن شاء الله قال أبو سلمة إن كنت لأرى الرؤيا هي أثقل علي من الجبل فلما سمعت هذا الحديث فما كنت أباليها

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          1784 1737 - ( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ، ( عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ) بن عوف: ( أنه قال : سمعت أبا قتادة ) الحارث ، أو النعمان ، أو عمرو ( بن ربعي ) ، بكسر الراء ، وإسكان الموحدة ، وكسر العين ، وتحتية الأنصاري ( يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : الرؤيا الصالحة ) المنتظمة الواقعة على شروطها الصحيحة ، وهي ما فيها بشارة ، أو تنبيه على غفلة .

                                                                                                          وقال الكرماني : الصالحة صفة موضحة ; لأن غيرها يسمى بالحلم ، أو مخصصة والصلاح باعتبار صورتها أو تعبيرها .

                                                                                                          وقال عياض تبعا للباجي : يحتمل أن معنى الصالحة والحسنة حسن ظاهرها ، ويحتمل أن المراد صحتها ، ( من الله ) ، أي بشرى وتحذير وإنذار .

                                                                                                          ( والحلم ) ، بضم الحاء ، وسكون اللام أو ضمها كما في النهاية وغيرها : الرؤية حسنة ، أو مكروهة ، وهي المراد هنا .

                                                                                                          قال عياض : وهي محتملة للوجهين سوء التأويل ( من الشيطان ) ، أي من إلقائه يخوف ويحزن الإنسان بها ، قال عياض : إضافة أي نسبة الرؤيا إلى الله إضافة تكريم وتشريف لطهارتها من حضور الشيطان ، وإفساده لها ، وسلامتها من الأضغاث ، أي التخليط ، وجمع الأشياء المتضادة بخلاف المكروهة ، وإن كانتا جميعا من خلق الله تعالى ، وبإرادته ، ولا فعل [ ص: 562 ] للشيطان فيها لكنه يحضرها ويرتضيها ويسر بها فلذا نسبت إليه ، أو لأنها مخلوقة على طبعه من التحذير ، والكراهة التي خلق عليها ، أو لأنها توافقه ويستحسنها لما فيها من شغل بال المسلم وتضرره بها .

                                                                                                          قال بعضهم : والتحذير وإن كان غالبا من الشيطان فقد يكون في الصالحة إنذار من الله ، واعتناء منه بعبده لئلا يفجأه ما قدر عليه ، فيكون منه على حذر وأهبة ، كما أن رؤيا الصالحين الغالب عليها الصحة ، وقد يكون فيها أضغاث نادرة العوارض من وسوسة نفس ، وحديثها ، أو غلبة خاطر .

                                                                                                          وقال ابن الجوزي : الرؤيا والحلم واحد غير أن صاحب الشرع خص الخير باسم الرؤيا ، والشر باسم الحلم .

                                                                                                          وقال التوربشتي : الحلم عند العرب يستعمل استعمال الرؤيا ، والتفريق بينهما من الاصطلاحات الشرعية التي لم يعطها بليغ ، ولم يهتد إليها حكيم ، بل سنها صاحب الشرع للفصل بين الحق والباطل .

                                                                                                          كأنه كره أن يسمي ما كان من الله ، وما كان من الشيطان باسم واحد ، فجعل الحلم عبارة عما كان من الشيطان ; لأن الكلمة لم تستعمل إلا فيما يخيل للحالم في نومه من قضاء الشهوة بما لا حقيقة له .

                                                                                                          ( فإذا رأى أحدكم الشيء يكرهه فلينفث ) - بضم الفاء وكسرها - طردا للشيطان الذي حضر الرؤيا المكروهة تحقيرا له واستقذارا ( عن يساره ) ، لأنها محل الأقذار ونحوها ، ( ثلاث مرات ) للتأكيد .

                                                                                                          وفي رواية الشيخين : " فليبصق عن يساره " ، وفي أخرى : " فليتفل " ، قال عياض : اختلف في التفل والنفث ، فقيل : معناهما واحد ، ولا يكونان إلا بريق ، وقيل : يشترط في التفل ريق يسير ، ولا يكون في النفث وقيل : عكسه .

                                                                                                          قال النووي : أكثر الروايات فلينفث ، وهو النفخ اللطيف بلا ريق ، فيكون التفل والبصق محمولين عليه مجازا ، وتعقبه الحافظ بأن المطلوب طرد الشيطان ، وإظهار احتقاره واستقذاره كما نقله هو عن عياض كما مر ، فالذي يجمع الثلاثة الحمل على التفل ، فإنه نفخ معه ريق لطيف ، فبالنظر إلى النفخ قيل له : نفث ، وبالنظر إلى التفل قيل له : بصق ، ( إذا استيقظ ) من نومه ، ( وليستعذ بالله من شرها ) ، زاد في رواية : " ومن شر الشيطان " ، قال الحافظ : ورد في صفة التعوذ من شر الرؤيا أثر صحيح أخرجه سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد الرزاق بأسانيد صحيحة عن إبراهيم النخعي ، قال : " إذا رأى أحدكم في منامه ما يكره ، فليقل إذا استيقظ : أعوذ بما عاذت به ملائكة الله ورسله من شر رؤياي هذه أن يصيبني فيها ما أكره في ديني ودنياي " ، وقال غيره : ورد أنه يقول : " اللهم إني أعوذ بك من عمل الشيطان وسيئات الأحلام " ، رواه ابن السني ، زاد في الصحيح من رواية عبد ربه بن سعيد عن أبي سلمة عن أبي قتادة : " ولا [ ص: 563 ] يحدث بها أحدا " ، وزاد مسلم عن جابر : " وليتحول عن جنبه الذي كان عليه " ، وزاد الشيخان من حديث أبي هريرة : " وليقم فليصل " ، ( فإنها لن تضره إن شاء الله ) ; لأن الله جعل ما ذكر سببا للسلامة من المكروه المترقب من الرؤيا ، كما جعل الصدقة وقاية للمال ، وأنها تدفع البلاء إذا فعل ذلك مصدقا متكلا على الله في دفع المكروه .

                                                                                                          وأما التحول فللتفاؤل بتحول تلك الحال التي كان عليها .

                                                                                                          قال النووي : وينبغي أن يجمع هذه الروايات كلها ويعمل بجميع ما تضمنته ، فإن اقتصر على بعضها أجزأته في دفع ضررها ، كما صرحت به الأحاديث ، وتعقبه الحافظ بأنه لم ير في شيء من الأحاديث الاقتصار على واحد ، ثم قال : لكن أشار المهلب إلى أن الاستعاذة كافية في دفع شرها ، انتهى .

                                                                                                          ولا ريب أن الصلاة تجمع ذلك كله كما قاله القرطبي ; لأنه إذا قام يصلي تحول عن جنبه ، وبصق ونفث عند المضمضة في الوضوء ، واستعاذ قبل القراءة ، ثم دعا الله في أقرب الأحوال إليه ، فيكفيه الله شرها .

                                                                                                          وذكر بعضهم قراءة آية الكرسي ، ولم يذكر لذلك مستندا ، فإن أخذ من عموم حديث : " ولا يقربك شيطان " ، فمتجه قال : وينبغي أن يقرأها في صلاته المذكورة .

                                                                                                          وقد زاد في رواية عبد ربه بن سعيد : " فإذا رأى أحدكم ما يحب ، فلا يحدث به إلا من يحب " ، وفي الترمذي : " لا يحدث بها إلا لبيبا أو حبيبا " ، أي لأنه إذا حدث بها من لا يحب قد يفسرها بما لا يحب ، إما بغضا ، وإما حسدا ، فقد يقع على تلك الصفة ، أو يتعجل لنفسه من ذلك حزنا ونكدا ، فأمر بترك تحديث من لا يحب لسبب ذلك ، وقد روي مرفوعا : " الرؤيا لأول عابر " ، وهو ضعيف لكن له شاهد عند أبي داود ، والترمذي ، وابن ماجه بسند حسن ، وصححه الحاكم عن أبي رزين العقيلي رفعه : " الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر ، فإذا عبرت وقعت " ، قال أبو عبيدة وغيره : معناه إذا كان العابر الأول عالما ، فعبر وأصاب وجه التعبير ، وإلا فهي لمن أصاب بعده ، إذ ليس المدار إلا على إصابة الصواب في تعبير المنام ، ليتوصل بذلك إلى مراد الله تعالى فيما ضرب من المثل ، فإذا أصاب فلا ينبغي أن يسأل غيره ، وإن لم يصب فليسأل الثاني ، وعليه أن يخبر بما عنده ، ويبين ما جهل الأول ، وفيه بحث يطول ذكره .

                                                                                                          ( قال أبو سلمة ) بن عبد الرحمن: ( إن كنت لأرى ) - باللام - ( الرؤيا هي أثقل علي من الجبل ) - بالجيم - واحد الجبال ، ( فلما سمعت هذا الحديث ) من أبي قتادة ، وجواب لما محذوف ، أي خف علي ما أراه ، ( فما كنت أباليها ) ، أي لا ألتفت إليها ، ولا ألقي لها بالا .

                                                                                                          وفي رواية عبد ربه : سمعت أبا سلمة يقول : لقد كنت أرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت أبا قتادة يقول : وأنا [ ص: 564 ] كنت لأرى الرؤيا تمرضني حتى سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول فذكره .

                                                                                                          وتابع مالكا سليمان بن بلال ، وعبد الوهاب الثقفي ، وعبد الله بن نمير ، كلهم عن يحيى بن سعيد به ، وتابعه أخوه عبد ربه ، ومحمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة ، كل ذلك في مسلم وغيره ، ورواه ابن عيينة ، ومعمر عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة ، نحوه في الصحيحين وغيرهما .




                                                                                                          الخدمات العلمية