الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          ما جاء في الطاعون

                                                                                                          وحدثني عن مالك عن ابن شهاب عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن عبد الله بن عباس أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوبأ قد وقع بأرض الشام قال ابن عباس فقال عمر بن الخطاب ادع لي المهاجرين الأولين فدعاهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوبأ قد وقع بالشام فاختلفوا فقال بعضهم قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه وقال بعضهم معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوبإ فقال عمر ارتفعوا عني ثم قال ادع لي الأنصار فدعوتهم فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم فقال ارتفعوا عني ثم قال ادع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فدعوتهم فلم يختلف عليه منهم رجلان فقالوا نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوبإ فنادى عمر في الناس إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه فقال أبو عبيدة أفرارا من قدر الله فقال عمر لو غيرك قالها يا أبا عبيدة نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان غائبا في بعض حاجته فقال إن عندي من هذا علما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه قال فحمد الله عمر ثم انصرف

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          7 - باب ما جاء في الطاعون

                                                                                                          بوزن فاعول من الطعن عدلوا به عن أصله ووضعوه دالا على الموت العام كالوباء ، قال صلى الله عليه وسلم : " الطاعون وخز أعدائكم من الجن وهو لكم شهادة " صححه الحاكم وغيره في وقوعه في أعدل الفصول وأصح البلاد هواء وأطيبها ماء دلالة على أنه إنما يكون من طعن الجن ، لأنه لو كان بسبب فساد الهواء أو انصباب الدم إلى عضو فيحدث ذلك كما زعم الأطباء لدام ذلك ; لأن الهواء يفسد تارة ويصح أخرى ، والطاعون يذهب أحيانا ويجيء أحيانا على غير قياس ولا تجربة ، وربما جاء سنة على سنة ، وربما أبطأ سنين ، ولو كان من فساد الهواء لعم الناس والحيوان وربما يصيب الكثير من الناس ولا يصيب من هو بجانبهم ممن هو في مثل مزاجهم ، وربما يصيب بعض أهل بيت واحد ويسلم منه باقيهم ، وما يذكر من أنه وخز إخوانكم الجن ، فقال الحافظ : لم أجده في شيء من طرق الحديث المسندة ولا في الكتب المشهورة ولا الأجزاء المنثورة بعد التتبع الطويل البالغ ، وعزاه في أكام المرجان لمسند أحمد والطبراني أو كتاب الطواعين لابن أبي الدنيا ولا وجود له في واحد منها ، قيل : إذا كان الطعن من الجن فكيف يقع في رمضان والشياطين تصفد فيه وتسلسل ؟ أجيب باحتمال أنهم يطعنون قبل دخول رمضان ولا يظهر التأثير إلا بعد دخوله ، وقيل غير ذلك .

                                                                                                          1655 1607 - ( مالك عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم ( عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن [ ص: 372 ] زيد بن الخطاب ) العدوي أبي عمر المدني ثقة فاضل ناسك ولي الكوفة لعمر بن عبد العزيز ومات بحران في خلافة هشام ( عن عبد الله بن عبد الله ) بفتح العين فيهما ( ابن الحارث بن نوفل ) بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي أبي يحيى المكي ثقة مات سنة تسع وتسعين وأبوه له رؤية ولقبه ببة بموحدتين الثانية ثقيلة ( عن عبد الله بن عباس ) رضي الله عنهما ( أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام ) سنة ثمان عشرة ، قاله سيف بن عمر في كتاب الفتوح ، وقال خليفة بن خياط : سنة سبع عشرة ، واستعمل على المدينة زيد بن ثابت واستخلفه مرات في خروجه إلى الحج وما أظنه استخلف غيره قط إلا ما حكي عن أبي المليح أن عمر استخلف مرة على المدينة خالا له يقال له عبد الله ، وفيه خروج الخليفة إلى أعماله يطالعها وينظر أحوال أهلها ، قاله ابن عبد البر ، وقال غيره خرج ليتفقد أحوال الرعية وكان طاعون عمواس بفتح العين المهملة والميم فألف فسين مهملة ، وسمي به ; لأنه عم وأساء وقع بها في محرم وصفر ثم ارتفع فكتبوا إلى عمر فخرج حتى إذا كان ( بسرغ ) بفتح السين المهملة وسكون الراء على المشهور وغين معجمة قرية بوادي تبوك يجوز فيها الصرف وعدمه ، وقيل : هي مدينة افتتحها أبو عبيدة وهي واليرموك والجابية متصلات ، وبينها وبين المدينة ثلاثة عشر مرحلة ( لقيه أمراء الأجناد ) بالفتح جمع جند ( أبو عبيدة ) عامر ( بن الجراح ) أحد العشرة ( وأصحابه ) خالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة وعمرو بن العاص ، وكان عمر قسم الشام أجنادا : الأردن جند ، وحمص جند ، ودمشق جند ، وفلسطين جند ، وقنسرين جند ، وجعل على كل جند أميرا ، ثم لم يمت عمر حتى جمع الشام لمعاوية .

                                                                                                          ( فأخبروه أن الوباء ) مهموز وقصره أفصح من مده أي الطاعون ( قد وقع بالشام ) وعند سيف أنه أشد ما كان .

                                                                                                          ( قال ابن عباس : فقال عمر بن الخطاب ) لي ( ادع ) لي ( المهاجرين الأولين ) الذين صلوا للقبلتين ( فدعاهم فاستشارهم ) في القدوم أو الرجوع ( وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام فاختلفوا فقال بعضهم : قد خرجت لأمر ) تفقد حال الرعية ( ولا نرى أن ترجع عنه ) حتى تفعله .

                                                                                                          ( وقال بعضهم : معك بقية الناس ) أي الصحابة قالوا ذلك [ ص: 373 ] تعظيما لهم ( وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ) عطف تفسير ( ولا نرى أن تقدمهم ) بضم الفوقية وسكون القاف وكسر الدال ، أي : تجعلهم قادمين ( على هذا الوباء ) أي الطاعون .

                                                                                                          ( فقال عمر : ارتفعوا عني ) وفي رواية : فأمرهم فخرجوا عنه ( ثم قال ) عمر لابن عباس : ( ادع لي الأنصار فدعوتهم ) فحضروا عنده ( فاستشارهم ) في ذلك ( فسلكوا سبيل المهاجرين ) فيم قالوا ( واختلفوا كاختلافهم فقال ) لهم ( ارتفعوا عني ، ثم قال : ادع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش ) بفتح الميم جمع شيخ وهو من طعن في السن ( من مهاجرة الفتح ) بضم الميم وكسر الجيم قيل هم الذين أسلموا قبل الفتح وهاجروا عامه إذ لا هجرة بعده ، وقيل : هم مسلمة الفتح الذين هاجروا بعده ، قال عياض : وهذا أظهر لأنهم الذين يطلق عليهم مشيخة قريش ، وأطلق على من تحول إلى المدينة بعد الفتح لأنه مهاجر صورة وإن انقطع حكم الهجرة بالفتح احترازا عن غيرهم ممن أقام بمكة ولم يهاجر .

                                                                                                          ( فدعوتهم ) فحضروا عنده ( فلم يختلف عليه منهم اثنان ) وفي رواية رجلان ( فقالوا : نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء ) الطاعون ، وفيه مشورة من يوثق بفهمه وعقله عند نزول المعضل ، وأن مسائل الاجتهاد لا يجوز لأحد القائلين فيها عيب مخالفة ولا الطعن عليه ، فإنهم اختلفوا وهم القدوة فلم يعب أحد منهم على صاحبه واجتهاده ولا وجد عليه في نفسه ، وأن الإمام إذا نزلت به نازلة ليست في الكتاب ولا السنة عليه جمع الجمع وذوي الرأي ويشاورهم فإن لم يأت واحد منهم بدليل فعليه الميل إلى الأصلح والأخذ بما يراه ، وأن الاختلاف لا يوجب حكما وإنما يوجب النظر ، وأن الإجماع يوجب الحكم والعمل ، قاله أبو عمر ( فنادى عمر بن الخطاب في الناس ) حين ظهر له صواب رأي المشيخة ( إني مصبح ) بضم الميم وسكون الصاد وكسر الموحدة الخفيفة وبفتح الصاد المهملة وكسر الموحدة الثقيلة ، أي : مسافر في الصباح راكبا ( على ظهر ) أي : على ظهر الراحلة راجعا إلى المدينة ( فأصبحوا عليه ) قال القرطبي : ظاهره أنه رجع إلى رأيهم ، ولا يبعد لأنه أحوط للمسلمين ، ولأنه وافقهم عليه كثير من المهاجرين الأولين والأنصار ، فحصل ترجيح الرأي بالكثرة ، لا سيما رأي أهل السن [ ص: 374 ] والتجربة والعقول الراجحة ، ومستند الطائفتين في اختلافهم مبني على أصلين من أصول الشريعة : الأول التوكل والتسليم لقضاء الله وقدره .

                                                                                                          والثاني الحذر وترك إلقاء اليد إلى التهلكة .

                                                                                                          ( فقال أبو عبيدة ) لعمر ( أ ) ترجع ( فرارا من قدر الله ؟ قال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ) لأدبته لاعتراضه علي في مسألة اجتهادية وافقني عليها أكثر الناس من أهل الحل والعقد ، أو لكان أولى منك بتلك المقالة أو لم أتعجب منه ولكني أتعجب منك مع علمك وفضلك كيف تقول هذا أو هي للتمني فلا يحتاج لجواب ، والمعنى أن غيرك ممن لا فهم له إذا قال ذلك يعذر .

                                                                                                          ( نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله ) زاد يحيى النيسابوري عن مالك به وكان يكره خلافه ، أي : عمر يكره خلاف أبي عبيدة وأطلق عليه فرارا لشبهه في الصورة وإن كان ليس فرارا شرعيا ، والمراد أن هجوم المرء على ما يهلكه منهي عنه ، ولو فعل لكان من قدر الله ، وتجنبه ما يؤذيه مشروع ، وقد يقدر الله وقوعه فيما فرضه فلو فعله أو تركه لكان من قدر الله ، وفيه المناظرة عند الاختلاف ، ثم قايسه وناظره بما يشبه المسألة فقال : ( أرأيت ) أي : أخبرني ( لو كان لك إبل فهبطت واديا له عدوتان ) بضم العين وكسرها ودال مهملتين ، أي : شاطئان وحالتان ( إحداهما مخصبة ) بضم الميم وسكون المعجمة وكسر المهملة ، وفي رواية خصبة بفتح الخاء وكسر الصاد بلا ميم ( والأخرى جدبة ) بفتح الجيم وإسكان الدال المهملة وبكسرها ( أليس إن رعيت الخصبة ) بفتح المعجمة وكسر المهملة ( رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله ) فنقلك إياها من الجدبة ورعيها في الخصبة فرارا من قدر الله إلى قدر الله ، فكذلك رجوعنا .

                                                                                                          زاد معمر في روايته عن ابن شهاب به وقال له أيضا : أرأيت لو أنه رعى الجدبة وترك الخصبة أكنت معجزه ؟ قال : نعم ، قال : فسر إذا .

                                                                                                          ( فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان غائبا في بعض حاجته ) لم يحضر معهم المشاورة المذكورة ( فقال إن عندي من ) وفي رواية في ( هذا ) الذي اختلفتم فيه ( علما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا سمعتم به ) بالطاعون ( بأرض فلا تقدموا عليه ) ليكون أسكن لأنفسكم وأقطع لوسواس الشيطان .

                                                                                                          قال في الأحوذي : ولأن الله أمر أن لا يتعرض للحتف والبلاء وإن كان لا نجاة [ ص: 375 ] من قدر الله إلا أنه من باب الحذر الذي شرعه الله ، ولئلا يقول القائل : لو لم أدخل لم أمرض ولو لم يدخل فلان لم يمت .

                                                                                                          ( وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه ) لئلا يكون معارضة للقدر ، فلو خرج لقصد الفرار جاز .

                                                                                                          قال ابن دقيق العيد : الذي يترجح عندي في النهي عن الفرار والنهي عن القدوم أن الإقدام عليه تعرض للبلاء ، ولعله لا يصبر عليه ، وربما كان فيه ضرب من الدعوى لمقام الصبر أو التوكل فمنع ذلك لاغترار النفس ودعواها ما لا تثبت عليه عند التحقيق ، وأما الفرار فقد يكون داخلا في باب التوغل في الأسباب متصورا بصورة من يحاول النجاة مما قدر عليه فيقع التكلف في القدوم كما يقع التكلف في الفرار فأمر بترك التكلف فيهما .

                                                                                                          ونظير ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " لا تتمنوا لقاء العدو وإذ لقيتموهم فاصبروا " فأمرهم بترك التمني لما فيه من التعرض للبلاء وخوف الاغترار بالنفس إذ لا يؤمن غدرها عند الوقوع ، ثم أمر بالصبر عند الوقوع تسليما لأمر الله .

                                                                                                          ( قال ) ابن عباس ( فحمد الله ) تعالى ( عمر ) على موافقة اجتهاد معظم الصحابة للحديث النبوي ( ثم انصرف ) راجعا إلى المدينة اتباعا للنص النبوي القاطع للنزاع ، وبه أمر الله عباده أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة ، فمن كان عنده علم ذلك وجب الانقياد إليه .

                                                                                                          وفي أن الحديث يسمى علما لقول عبد الرحمن : عندي من هذا علم وما كانوا عليه من الإنصاف للعلم والانقياد إليه ، كيف لا وهم خير الأمم ، ودليل قوي على وجوب العمل بخبر الواحد ; لأنه كان بمحضر جمع عظيم من الصحابة فلم يقولوا لعبد الرحمن : أنت واحد ، وإنما يجب قبول خبر الكافة . ما أضل من قال بهذا والله تعالى يقول : إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا [ سورة الحجرات : الآية 6 ] وقرئ " فتثبتوا " فلو كان العدل إذا جاء بنبأ تثبت في خبره ولم ينفذ لاستوى مع الفاسق ، وهذا خلاف القرآن أم نجعل المتقين كالفجار [ سورة ص : الآية 28 ] ، قاله ابن عبد البر .

                                                                                                          وأخرجه البخاري في الطب عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به ، وتابعه يونس ومعمر عن ابن شهاب عند مسلم قائلا نحو حديث مالك .

                                                                                                          وزاد معمر قال : وقال له أيضا : أرأيت لو أنه رعى الجدبة وترك الخصبة أكنت معجزه ؟ قال : نعم ، قال : فسر إذا ، فسار حتى أتى المدينة ، فقال : هذا المحل أو هذا المنزل إن شاء الله .




                                                                                                          الخدمات العلمية