الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ مسألة الاحتجاج بالحسن ] إذا علم هذا ، فقد قال الخطابي متصلا بتعريفه السابق ; لكونه متعلقا به في الجملة ، لا أنه تتمته : وعليه - أي : الحسن - مدار أكثر الحديث - أي : بالنظر لتعدد الطرق - فإن غالبها لا يبلغ رتبة الصحيح المتفق عليه .

[ ص: 93 ] ونحوه قول البغوي : أكثر الأحكام ثبوتها بطريق حسن ، ثم قال الخطابي : ( والفقهاء كلهم ) وهو وإن عبر بعامتهم ، فمراده كلهم ( يستعمله ) أي : في الاحتجاج والعمل في الأحكام وغيرها ( والعلماء ) من المحدثين والأصوليين ( الجل ) أي : المعظم ( منهم يقبله ) فيهما .

وممن خالف في ذلك من أئمة الحديث أبو حاتم الرازي ; فإنه سئل عن حديث فحسنه ، فقيل له : أتحتج به ؟ فقال : إنه حسن ، فأعيد السؤال مرارا ، وهو لا يزيد على قوله : إنه حسن .

ونحوه أنه سئل عن عبد ربه بن سعيد ، فقال : إنه لا بأس به ، فقيل له : أتحتج بحديثه ؟ فقال : هو حسن الحديث ، ثم قال : الحجة سفيان وشعبة . وهذا يقتضي عدم الاحتجاج به .

والمعتمد الأول ( وهو ) أي الحسن لذاته عند الجمهور ، وكذا لغيره كما اقتضاه النظم ( بأقسام الصحيح ملحق حجية ) أي : في الاحتجاج ( وإن يكن ) كما أشار إليه ابن الصلاح ( لا يلحق ) الصحيح في الرتبة : [ إما لضعف راويه ، أو انحطاط ضبطه ، بل المنحط لا ينكر مدرجه في الصحيح أنه دونه .

وكذا قال ابن الصلاح ; فهذا اختلاف إذن في العبارة دون المعنى ، ثم إن ما اقتضاه النظم يمكن التمسك له بظاهر قول ابن الجوزي متصلا بتعريفه ، ويصلح للعمل به وهو كذلك ، لكن فيما تكثر طرقه ] .

[ ص: 94 ] وقد قال النووي رحمه الله في بعض الأحاديث : وهذه وإن كانت أسانيد مفرداتها ضعيفة ، فمجموعها يقوي بعضه بعضا ، ويصير الحديث حسنا ويحتج به ، وسبقه البيهقي في تقوية الحديث بكثرة الطرق الضعيفة .

وظاهر كلام أبي الحسن بن القطان يرشد إليه ، فإنه قال : هذا القسم لا يحتج به كله ، بل يعمل به في فضائل الأعمال ، ويتوقف عن العمل به في الأحكام ، إلا إذا كثرت طرقه ، أو عضده اتصال عمل ، أو موافقة شاهد صحيح ، أو ظاهر القرآن . واستحسنه شيخنا .

وصرح في موضع آخر بأن الضعيف الذي ضعفه ناشئ عن سوء حفظه ، إذا كثرت طرقه ، ارتقى إلى مرتبة الحسن ، ولكنه متوقف في شمول الحسن المسمى بالصحيح عند من لا يفرق بينهما لهذا .

وكلام ابن دقيق العيد أيضا يشير إلى التوقف في إطلاق الاحتجاج بالحسن ، وذلك أنه قال في الاقتراح ، إن ههنا أوصافا يجب معها قبول الرواية ، إذا وجدت في الراوي ، فإما أن يكون هذا الحديث المسمى بالحسن مما قد وجدت فيه هذه الصفات على أقل الدرجات التي يجب معها القبول أو لا ، فإن وجدت فذلك صحيح ، وإن لم توجد فلا يجوز الاحتجاج به وإن سمي حسنا ، اللهم إلا أن يرد هذا إلى أمر اصطلاحي .

وهو أن يقال : إن الصفات التي يجب معها قبول الرواية لها مراتب ودرجات ، فأعلاها هو الصحيح ، وكذلك أوسطها ، وأدناها الحسن ، وحينئذ يرجع [ ص: 95 ] الأمر في ذلك إلى الاصطلاح ، ويكون الكل صحيحا في الحقيقة .

والأمر في الاصطلاح قريب ، لكن من أراد هذه الطريقة ، فعليه أن يعتبر ما سماه أهل الحديث حسنا ، وتحقق وجود الصفات التي يجب معها قبول الرواية في تلك الأحاديث .

قلت : قد وجد إطلاقه على المنكر ، قال ابن عدي في ترجمة سلام بن سليمان المدائني : حديثه منكر ، وعامته حسان ، إلا أنه لا يتابع عليه .

وقيل لشعبة : لأي شيء لا تروي عن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي ، وهو حسن الحديث ؟ فقال : من حسنه فررت .

وكأنهما أرادا المعنى اللغوي ، وهو حسن المتن ، وربما أطلق على الغريب ، قال إبراهيم النخعي : كانوا إذا اجتمعوا كرهوا أن يخرج الرجل حسان حديثه ، فقد قال ابن السمعاني : إنه عنى الغرائب .

ووجد للشافعي إطلاقه في المتفق على صحته ، ولابن المديني في الحسن لذاته ، وللبخاري في الحسن لغيره ، ونحوه - فيما يظهر - قول أبي حاتم الرازي : فلان مجهول ، والحديث الذي رواه حسن .

وقول إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في الطلحي : إنه ضعيف الحديث مع حسنه ، على أنه يحتمل [ ص: 96 ] إرادتهما المعنى اللغوي أيضا .

وبالجملة فالترمذي هو الذي أكثر من التعبير بالحسن ، ونوه بذكره ; كما قاله ابن الصلاح ، ولكن حيث ثبت اختلاف صنيع الأئمة في إطلاقه ، فلا يسوغ إطلاق القول بالاحتجاج به ، بل لا بد من النظر في ذلك .

فما كان منه منطبقا على الحسن لذاته فهو حجة ، أو الحسن لغيره فيفصل بين ما تكثر طرقه فيحتج به ، وما لا فلا ، وهذه أمور جملية تدرك تفاصيلها بالمباشرة .

( فإن يقل ) حيث تقرر أن الحسن لا يشترط في ثاني قسميه ثقة رواته ، ولا اتصال سنده ، واكتفي في عاضده بكونه مثله مع أن كلا منهما بانفراده ضعيف لا تقوم به الحجة ، فكيف ( يحتج بالضعيف ) مع اشتراطهم أو جمهورهم الثقة في القبول ؟ ( فقل ) : إنه لا مانع منه ( إذا كان ) الحديث ( من الموصوف رواته ) واحد فأكثر ( بسوء حفظ ) أو اختلاط أو تدليس مع كونهم من أهل الصدق والديانة فذاك ( يجبر بكونه ) أي : المتن ( من غير وجه يذكر ) .

ويكون العاضد الذي لا ينحط عن الأصلي معه كافيا ، مع الخدش فيه بما تقدم قريبا من كلام النووي وغيره الظاهر في اشتراط التعدد الذي قد لا ينافيه ما سيجيء عن الشافعي في المرسل قريبا ; لاشتراطه ما ينجبر به التفرد ، وإنما انجبر ; لاكتسابه من الهيئة المجموعة قوة ، كما في أفراد المتواتر والصحيح لغيره الآتي قريبا .

وأيضا فالحكم على الطريق الأولى بالضعف إنما هو لأجل الاحتمال المستوي الطرفين في سيئ الحفظ مثلا ; هل ضبط أم لا ؟ فبالرواية الأخرى غلب على الظن أنه ضبط ، على ما تقرر كل ذلك قريبا عند تعريف الترمذي .

( وإن يكن ) ضعف الحديث ( لكذب في ) راويه ( أو شذا ) أي وشذوذ في روايته بأن خالف من [ ص: 97 ] هو أحفظ أو أكثر ( أو قوي الضعف ) بغيرهما بما يقتضي الرد .

( فلم يجبر ذا ) أي : الضعف بواحد من هذه الأسباب ولو كثرت طرقه ; كحديث : من حفظ على أمتي أربعين حديثا ، فقد نقل النووي اتفاق الحفاظ على ضعفه من كثرة طرقه ، ولكن بكثرة طرقه - القاصرة عن درجة الاعتبار ; بحيث لا يجبر بعضها ببعض - يرتقي عن مرتبة المردود المنكر الذي لا يجوز العمل به بحال ، إلى رتبة الضعيف الذي يجوز العمل به في الفضائل .

وربما تكون تلك الطرق الواهية بمنزلة الطريق التي فيها ضعف يسير ; بحيث لو فرض مجيء ذلك الحديث بإسناد فيه ضعف يسير ، كان مرتقيا بها إلى مرتبة الحسن لغيره .

( ألا ترى ) الحديث ( المرسل ) مع ضعفه عند الشافعي ومن وافقه ( حيث أسندا ) من وجه آخر ( أو أرسلوا ) أي : أو أرسل من طريق تابعي أخذ العلم عن غير رجال التابعي الأول ( كما يجيء ) تقريره في بابه عن نص الشافعي ( اعتضدا ) وصار حجة .

ثم كما أن الحسن على قسمين ، كذلك الصحيح ، فما سلف هو الصحيح لذاته ( و ) الحديث ( الحسن ) لذاته وهو ( المشهور بالعدالة والصدق راويه ) غير أنه كما تقدم متأخر المرتبة في الضبط والإتقان عن راوي الصحيح .

( إذا أتى له طرق أخرى نحوها ) أي : نحو طريقه الموصوفة بالحسن ( من الطرق ) المنحطة عنها ( صححته ) إما عند التساوي أو الرجحان ، فمجيئه من وجه آخر كاف ، وهذا هو الصحيح لغيره ، وتأخيره لكونه كالدليل أيضا لدفع الإيراد قبله .

التالي السابق


الخدمات العلمية