الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        في حد الدعوى الصحيحة ، وشرطها أن تكون معلومة ملزمة .

                                                                                                                                                                        الأول العلم بالمدعى به ، فإن كان نقدا اشترط ذكر جنسه ونوعه وقدره ، قال ابن الصباغ : وإن اختلف الصحاح والمكسرة بين أنها صحاح أو مكسرة ، ومطلق الدينار ينصرف إلى الدينار الشرعي ، ولا حاجة إلى بيان وزنه ، وإن كان غير نقد ، نظر إن كان عينا وهي مما تضبط بالصفة ، كالحبوب والحيوان والثياب ، وصفها بصفات السلم ، ولا يشترط ذكر القيمة في الأصح ، وإن كانت تالفة كفى الضبط بالصفات إن كانت مثلية ، ولا يشترط ذكر القيمة ، وإن كانت متقومة ، اشترط ذكر القيمة ؛ لأنها الواجب عند التلف .

                                                                                                                                                                        وإن ادعى سيفا محلى ، اشترط ذكر قيمته ، ويقومه بالذهب إن كان محلى بالفضة ، وبالفضة [ ص: 9 ] إن كان محلى بالذهب ، فإن كان محلى بهما ، قومه بأحدهما للضرورة ، وفي الدراهم والدنانير المغشوشة يدعي مائة درهم من نقد كذا قيمتها كذا دينارا . أو دينارا من نقد كذا قيمته كذا درهما .

                                                                                                                                                                        هكذا ذكره الشيخ أبو حامد وغيره ، وكأنه جواب على أن المغشوش متقوم ، فإن جعلناه مثليا ، فينبغي أن لا يشترط التعرض للقيمة ، وفي العقار يتعرض للناحية والبلدة ، والمحلة والسكة ، وتبين الحدود ، ويستثنى من اشتراط العلم صور :

                                                                                                                                                                        إحداها : إنما يعتبر إذا طلب معينا ، فأما من حضر ليعين ، ويفرض له القاضي ، كالمفوضة تطلب الفرض على قولنا : لا يجب المهر بالعقد ، والواهب يطلب الثواب ، فلا يتصور الإعلام .

                                                                                                                                                                        الثانية : قال : أدعي أن مورثك أوصى لي بثوب ، أو بشيء تسمع الدعوى ؛ لأن الوصية تحتمل الجهالة ، فكذا دعواها ، وألحق ملحقون دعوى الإقرار بالمجهول بدعوى الوصية ، ومنهم من ينازع كلامه فيه ، ويصح دعوى الإبراء عن المجهول إن صححنا الإبراء عن المجهول .

                                                                                                                                                                        الثالثة : ادعى أن له طريقا في ملك غيره ، وادعى حق إجراء الماء ، قال القاضي أبو سعيد : الأصح أنه لا يحتاج إلى إعلام قدر الطريق والمجرى ، ويكفي لصحة الدعوى تحديد الأرض التي يدعي فيها الطريق والمجرى ، وكذا لا تصح الشهادة المرتبة عليها .

                                                                                                                                                                        وقال أبو علي الثقفي : يشترط إعلام قدر الطريق والمجرى ، وقال : وكذا لو باع بيتا من دار ، وسمى له طريقا ، ولم يبين قدره لا يصح ، قال القاضي : وعندي أنه لا يشترط هذا الإعلام في الدعوى ، لكن يؤخذ على الشهود إعلام الطريق والمسيل بالذرعان ؛ لأن الشهادة أعلى شأنا ، فإنها تستقل بقوة [ ص: 10 ] إيجاب الحكم بخلاف الدعوى .

                                                                                                                                                                        ولو أحضر المدعي ورقة ، وحرر فيها دعواه ، وقال : أدعي ما فيها ، وأدعي ثوبا بالصفات المكتوبة فيها ، ففي الاكتفاء به لصحة الدعوى وجهان .

                                                                                                                                                                        الشرط الثاني : كونها ملزمة ، فلو قال : وهب لي كذا أو باع ، لم تسمع دعواه حتى يقول : ويلزمه التسليم إلي لأنه قد يهب ويبيع ، وينقضها قبل القبض هكذا نقله الروياني والغزالي وغيرهما .

                                                                                                                                                                        ويقرب منه ما ذكره القاضي أبو سعد أنه يقول في دعوى الدين : لي في ذمته كذا ، وهو ممتنع من الأداء الواجب عليه ، قال : وإنما يتعرض لوجوب الأداء ؛ لأن الدين المؤجل لا يجب أداؤه في الحال ، وكان هذا إذا قصد بالدعوى تحصيل المدعى ، ويجوز أن يكون المقصود بالدعوى دفع المنازعة ، ولا يشترط التعرض لوجوب التسليم .

                                                                                                                                                                        قال ابن الصباغ : لو قال هذه الدار لي وهو يمنعنيها ، صحت الدعوى ، ولا يشترط أن يقول : هي في يده ؛ لأنه يجوز أن ينازعه ، وإن لم تكن في يده ، وإذا ادعى ولم يقل للقاضي : مره بالخروج عن حقي ، أو سله جواب دعواي ، فهل يطالبه القاضي ؟ وجهان ، قال ابن الصباغ : الأصح نعم ، للعلم بأنه الغرض من الحضور وإنشاء الدعوى ، قال القاضي أبو سعد : الأصح لا ؛ لأنه حقه ، فلا يستوفى إلا باقتراحه كاليمين .

                                                                                                                                                                        قلت : الأول أقوى . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فعلى هذا الثاني طلب الجواب شرط آخر في صحة الدعوى ، وسواء شرطنا هذا الاقتراح ، أم لم نشرطه فاقترحه ، فيمكن أن [ ص: 11 ] يقال : يغني ذلك عن قوله : ويلزمه التسليم إلي ، وأن من شرطه بناه على أنه لا يشترط الاقتراح المذكور .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لا يشترط لصحة الدعوى أن يعرف بينهما مخالطة أو معاملة ، ولا فرق فيه بين طبقات الناس ، فتصح دعوى دنيء على شريف ، وقال الإصطخري : إن شهدت قرائن الحال بكذب المدعي لم يلتفت إلى دعواه ، مثل أن يدعي الدنيء استئجار الأمير أو الفقيه لعلف الدواب ، أو كنس بيته ، ومثله دعوى المعروف بالتعنت ، وجر ذوي الأقدار إلى القضاة ، وتحليفهم ليفتدوا منه بشيء .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        ادعى عليه مالا ، وقام ، وأقام شاهدين شهدا على إقراره بشيء ، أو قالا : نعلم أن له عليه مالا ، ولا نعلم قدره ، ففي سماع شهادتهما هكذا وجهان ، حكاهما البغوي وغيره ، أحدهما : نعم ، ويرجع في التفسير إلى المشهود عليه ، كما لو أقر بمبهم ، وأصحهما : لا ، ويجريان فيما لو شهدا بغصب عبد ، أو ثوب ، ولم يصفاه .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        عن فتاوى القفال : ادعى دراهم مجهولة لا يسمع القاضي دعواه ، ويقول له : بين الأقل الذي تتحققه ، وإن ادعى ثوبا ولم يصفه أيضا ، لم يصغ إليه ، بل لو قال : هو كرباس ولم يصف ، أمره أن يأخذ [ ص: 12 ] بالأقل وهذا فيه إرشاد وتلقين ، ثم الأخذ بالأقل في قدر الدراهم مستقيم ، لكن الأخذ بالأقل من صفة ثوب عينه لا وجه له .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية