الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        ملك المبيع في زمن الخيار لمن ؟ فيه ثلاثة أقوال : أحدها ، للمشتري ، والملك في الثمن للبائع . والثاني : للبائع ، والملك في الثمن للمشتري . والثالث : موقوف . فإن تم البيع ، بان حصول الملك للمشتري بنفس البيع ، وإلا بان أن ملك البائع لم يزل . وكذا يتوقف في الثمن .

                                                                                                                                                                        وفي موضع الأقوال طرق . أحدها : أنها إذا كان الخيار لهما ، إما بالشرط ، وإما بالمجلس . أما إذا كان لأحدهما ، فهو مالك المبيع ، لنفوذ تصرفه . والثاني : أنه لا خلاف في المسألة ، ولكن إن كان الخيار للبائع ، فالملك له . وإن كان للمشتري ، فله . وإن كان لهما ، فموقوف . وتنزل الأقوال على هذه الأحوال . والثالث : طرد الأقوال في جميع الأحوال ، وهو الأصح عند عامة الأصحاب ، منهم العراقيون ، والحليمي . وأما الأظهر من الأقوال ، فقال الشيخ أبو حامد ومن نحا نحوه : الأظهر : أن الملك للمشتري ، وبه قال الإمام . وقال آخرون ، الأظهر : الوقف ، وبه قال صاحب " التهذيب " ، والأشبه : توسط . ذكره جماعة ، وهو أنه إن كان الخيار للبائع ، فالأظهر : بقاء الملك له . وإن كان للمشتري ، فالأظهر : انتقاله إليه . وإن كان لهما ، فالأظهر : الوقف .

                                                                                                                                                                        التفريع . لهذه الأقوال فروع كثيرة . منها : ما يذكر في أبوابه . [ ص: 451 ] ومنها : ما يذكر هنا . فمن ذلك كسب العبد والأمة المبيعين في زمن الخيار ، فإن تم البيع ، فهو للمشتري إن قلنا : الملك له أو موقوف . وإن قلنا : للبائع ، فوجهان .

                                                                                                                                                                        قال الجمهور : الكسب للبائع ; لأن الملك له عند حصوله . وقال أبو علي الطبري : للمشتري . وإن فسخ البيع ، فهو للبائع إن قلنا : الملك له ، أو موقوف . وإن قلنا : للمشتري ، فوجهان .

                                                                                                                                                                        أصحهما : للمشتري . وقال أبو إسحاق : للبائع . وفي معنى الكسب : اللبن ، والثمرة ، والبيض ، ومهر الجارية إذا وطئت بشبهة . ومنه النتاج ، فإن فرض حدوث الولد وانفصاله في مدة الخيار لامتداد المجلس ، فهو كالكسب . وإن كانت الجارية أو البهيمة حاملا عند البيع ، وولدت في زمن الخيار ، بني على أن الحمل هل يأخذ قسطا من الثمن ؟ وفيه قولان . أحدهما : لا ، كأعضائها . فعلى هذا هو كالكسب بلا فرق . وأظهرهما : نعم ، كما لو بيع بعد الانفصال مع الأم . فعلى هذا ، الحمل مع الأم كعينين بيعتا معا . فإن فسخ البيع فهما للبائع ، وإلا فللمشتري . ومنه العتق ، فإذا أعتق البائع في زمن الخيار المشروط لهما أو للبائع ، نفذ إعتاقه على كل قول . وإن أعتقه المشتري ، فإن قلنا : الملك للبائع ، لم ينفذ إن فسخ البيع ، وكذا إن تم على الأصح . وإن قلنا : موقوف ، فالعتق أيضا موقوف ، فإن تم العقد ، بان نفوذه ، وإلا فلا . وإن قلنا : الملك للمشتري ، ففي العتق وجهان .

                                                                                                                                                                        أصحهما وهو ظاهر النص : لا ينفذ ، صيانة لحق البائع عن الإبطال . وعن ابن سريج : أنه ينفذ ، لمصادفته الملك . ثم قيل بالنفوذ عنه مطلقا . وقيل : إنه يفرق بين أن يكون موسرا ، فينفذ ، أو معسرا ، فلا ينفذ ، كالمرهون . فإن قلنا : لا ينفذ ، فاختار البائع الإجارة ، ففي الحكم بنفوذه الآن وجهان . وإن قلنا : ينفذ ، فمن [ ص: 452 ] وقت الإجازة أم الإعتاق ؟ وجهان .

                                                                                                                                                                        أصحهما الأول . وإن قلنا بوجه ابن سريج ، ففي بطلان خيار البائع وجهان . أحدهما : يبطل ، وليس له إلا الثمن . وأصحهما : لا يبطل ، لكن لا يرد العتق ، بل إذا فسخ أخذ منه قيمة العبد ، كنظيره في الرد بالعيب .

                                                                                                                                                                        هذا كله إذا كان الخيار لهما ، أو للبائع . أما إذا كان للمشتري ، فينفذ إعتاقه على جميع الأقوال ؛ لأنه إما مصادف ملكه وإما إجازة ، وليس فيه إبطال حق الغير . وإن أعتقه البائع ، فإن قلنا : الملك للمشتري ، لم ينفذ ، تم البيع أم فسخ . ويجيء فيما لو فسخ الوجه الناظر إلى المآل . وإن قلنا بالوقف ، لم ينفذ إن تم البيع ، وإلا نفذ . وإن قلنا : إنه للبائع ، فإن اتفق الفسخ فهو نافذ ، وإلا فقد أعتق ملكه الذي تعلق به حق لازم ، فهو كإعتاق الراهن .

                                                                                                                                                                        ومنه : الوطء ، فإن كان الخيار لهما أو للبائع ، ففي حله للبائع طرق . أحدها : أنا إن جعلنا الملك له ، فهو حلال ، وإلا فوجهان . وجه الحل : أنه يتضمن الفسخ ، وفي ذلك عود الملك إليه معه أو قبيله . والطريق الثاني : إن لم نجعل الملك له ، فحرام ، وإلا فوجهان . وجه التحريم : ضعف الملك ، و [ الطريق ] الثالث : القطع بالحل مطلقا . والمذهب من هذا كله : الحل ، إن جعلنا الملك له ، والتحريم ، إن لم نجعله له ، ولا مهر عليه بحال . وأما وطء المشتري ، فحرام قطعا ؛ لأنه وإن ملك على قول ، فملك ضعيف ، ولكن لا حد عليه على الأقوال ، لوجود الملك أو شبهته . وهل يلزمه المهر ؟ إن تم البيع ، فلا ، إن قلنا : الملك للمشتري أو موقوف . وإن قلنا : للبائع ، وجب المهر له على الصحيح . وقال أبو إسحاق : لا يجب ، نظرا إلى المآل . وإن فسخ البيع وجب المهر للبائع إن قلنا : الملك له أو موقوف . وإن قلنا : للمشتري ، فلا مهر على الأصح . ولو أولدها فالولد حر نسيب على الأقوال . وهل يثبت الاستيلاد ؟ إن قلنا : الملك للبائع ، فلا . ثم إن تم البيع ، أو ملكها بعد ذلك ، ففي ثبوته حينئذ قولان ، كمن وطئ جارية [ ص: 453 ] غيره بشبهة ثم ملكها . وعلى وجه الناظر إلى المآل ، إذا تم البيع ، نفذ الاستيلاد بلا خلاف . وعلى قول الوقف ، إن تم البيع ، بان ثبوت الاستيلاد ، وإلا فلا . فلو ملكها يوما عاد القولان . وعلى قولنا : الملك للمشتري ، ففي ثبوت الاستيلاد الخلاف المذكور في العتق . فإن لم يثبت في الحال وتم البيع ، بان ثبوته .

                                                                                                                                                                        ورتب الأئمة الخلاف في الاستيلاد على الخلاف في العتق ، فقيل : الاستيلاد أولى بالثبوت . وقيل عكسه . وقال الإمام : ولا يبعد القول بالتسوية . والقول في وجوب قيمة الولد على المشتري كالقول في المهر . أما إذا كان الخيار للمشتري وحده ، فحكم حل الوطء كما سبق في حل الوطء في طرف البائع إذا كان الخيار لهما ، أو له . وأما البائع ، فيحرم عليه الوطء هنا . فلو وطئ ، فالقول في وجوب المهر وثبوت الاستيلاد ووجوب القيمة كما ذكرناه في طرف المشتري ، إذا كان الخيار لهما ، أو للبائع .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إذا تلف المبيع بآفة سماوية في زمن الخيار ، نظر ، إن كان قبل القبض ، انفسخ العقد . وإن كان بعده وقلنا : الملك للبائع ، انفسخ أيضا ، فيسترد الثمن ، ويغرم للبائع القيمة . وفي القيمة الخلاف المذكور في كيفية غرامة المستعير والمستام . وإن قلنا : الملك للمشتري أو موقوف ، فوجهان أو قولان . أحدهما : ينفسخ أيضا ، لحصول الهلاك قبل استقرار العقد . وأصحهما : لا ينفسخ ، لدخوله في ضمان المشتري بالقبض ، ولا أثر لولاية الفسخ كما في خيار العيب . فإن قلنا بالانفساخ ، فعلى المشتري القيمة .

                                                                                                                                                                        قال الإمام : وهنا يقطع باعتبار قيمة يوم التلف ; لأن الملك قبل ذلك للمشتري . وإن قلنا بعدم الانفساخ ، فهل ينقطع الخيار ؟ وجهان . أحدهما : نعم ، كما ينقطع خيار الرد بالعيب بتلف المبيع . وأصحهما : [ ص: 454 ] لا ، كما لا يمتنع التحالف بتلف المبيع ، ويخالف الرد بالعيب ; لأن الضرر ثم يندفع بالأرش ، فإن قلنا بالأول ، استقر العقد ولزم الثمن . وإن قلنا بالثاني ، فإن تم العقد ، لزم الثمن ، وإلا وجبت القيمة على المشتري ، واسترد الثمن . فإن تنازعا في تعيين القيمة ، فالقول قول المشتري . ومن الأصحاب من قطع بعدم الانفساخ وإن قلنا : الملك للبائع . وذكروا تفريعا على أنه لو لم ينفسخ حتى انقضى زمن الخيار ، فعلى البائع رد الثمن ، وعلى المشتري القيمة . قال الإمام : هذا تخليط ظاهر .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو قبض المشتري المبيع في زمن الخيار وأتلفه متلف قبل انقضائه ، إن قلنا : الملك للبائع ، انفسخ البيع كالتلف . وإن قلنا : للمشتري أو موقوف ، نظر ، إن أتلفه أجنبي ، بني على ما لو تلف . إن قلنا : ينفسخ العقد هناك ، فهو كإتلاف الأجنبي المبيع قبل القبض ، وسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى . وإن قلنا : لا ينفسخ ، وهو الأصح ، فكذا هنا ، وعلى الأجنبي القيمة ، والخيار بحاله . فإن تم البيع ، فهي للمشتري ، وإلا فللبائع . وإن أتلفه المشتري ، استقر الثمن عليه . فإن أتلفه في يد البائع ، وجعلنا إتلافه قبضا ، فهو كما لو تلف في يده . وإن أتلفه البائع في يد المشتري ، ففي " التتمة " : أنه يبنى على أن إتلافه كإتلاف الأجنبي ، أم كالتلف بآفة سماوية ؟ وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                        [ ص: 455 ] فرع

                                                                                                                                                                        لو تلف بعض المبيع في زمن الخيار بعد القبض ، بأن اشترى عبدين ، فمات أحدهما ، ففي الانفساخ في التالف الخيار السابق . فإن انفسخ جاء في الانفساخ في الباقي قولا تفريق الصفقة . وإن لم ينفسخ ، ففي خياره في الباقي ، إن قلنا : يجوز رد أحد العبدين إذا اشتراهما بشرط الخيار ، وإلا ففي بقاء الخيار في الباقي ، الوجهان . وإذا بقي الخيار فيه ، ففسخ ، رده مع قيمة الهالك .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إذا قبض المبيع في زمن الخيار ، ثم أودعه عند البائع ، فتلف في يده ، فهو كما لو تلف في يد المشتري . حتى إذا فرعنا على أن الملك للبائع ، ينفسخ البيع ، ويسترد الثمن ، ويغرم القيمة ، حكاه الإمام عن الصيدلاني . ثم أبدى احتمالا في وجوب القيمة لحصول التلف بعد العود إلى يد المالك .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لا يجب على البائع تسليم المبيع ، ولا على المشتري تسليم الثمن في زمن الخيار . فلو تبرع أحدهما بالتسليم ، لم يبطل خياره ، ولا يجبر الآخر على تسليم ما عنده ، وله استرداد المدفوع . وقيل : ليس له استرداده ، وله أخذ ما عند صاحبه دون رضاه . والأول أصح .

                                                                                                                                                                        [ ص: 456 ] فرع

                                                                                                                                                                        لو اشترى زوجته بشرط الخيار ، ثم خاطبها بالطلاق في زمن الخيار ، فإن تم العقد وقلنا : الملك للمشتري أو موقوف ، لم يقع الطلاق . وإن قلنا : للبائع ، وقع . وإن فسخ وقلنا : للبائع أو موقوف ، وقع . وإن قلنا : للمشتري ، فوجهان . وليس له الوطء في زمن الخيار ؛ لأنه لا يدري أيطأ بالملك أو بالزوجية ؟ هذا هو الصحيح المنصوص . وفي وجه : له الوطء .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية