الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض نهى الله نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يحسب ، أي : يظن الذين كفروا معجزين في الأرض ، ومفعول معجزين محذوف ، أي : لا يظنهم معجزين ربهم ، بل قادر على عذابهم لا يعجز عن فعل ما أراد بهم ; لأنه قادر على كل شيء .

                                                                                                                                                                                                                                      وما دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء مبينا في آيات أخر ; كقوله تعالى : واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين [ 9 \ 2 ] ، وقوله تعالى : وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم [ 9 \ 3 ] ، وقوله تعالى : [ ص: 555 ] أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون [ 29 \ 4 ] ، وقوله تعالى : قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين [ 10 \ 53 ] ، وقوله تعالى : يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء الآية [ 29 \ 21 - 22 ] ، وقوله في " الشورى " : وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير [ 42 \ 31 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : لا تحسبن الذين كفروا [ 24 \ 57 ] ، قرأه ابن عامر وحمزة : لا يحسبن بالياء المثناة التحتية على الغيبة ، وقرأه باقي السبعة : لا تحسبن بالتاء الفوقية ، وقرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة بفتح السين ، وباقي السبعة بكسرها .

                                                                                                                                                                                                                                      والحاصل أن قراءة ابن عامر وحمزة بالياء التحتية وفتح السين ، وقراءة عاصم بالتاء الفوقية وفتح السين ، وقراءة الباقين من السبعة بالتاء الفوقية وكسر السين ، وعلى قراءة من قرأ بالتاء الفوقية فلا إشكال في الآية مع فتح السين وكسرها ; لأن الخطاب بقوله : لا تحسبن للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقوله : الذين كفروا هو المفعول الأول ، وقوله : معجزين هو المفعول الثاني لـ : تحسبن وأما على قراءة : ولا يحسبن بالياء التحتية ، ففي الآية إشكال معروف ، وذكر القرطبي الجواب عنه من ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : أن قوله الذين كفروا في محل رفع فاعل يحسبن والمفعول الأول محذوف ، تقديره : أنفسهم ، و معجزين مفعول ثان ، أي : لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين الله في الأرض ، وعزا هذا القول للزجاج ، والمفعول المحذوف قد تدل عليه قراءة من قرأ بالتاء الفوقية ، كما لا يخفى ، ومفعولا الفعل القلبي يجوز حذفهما أو حذف أحدهما إن قام عليه دليل ; كما أشار له ابن مالك في " الخلاصة " ، بقوله :

                                                                                                                                                                                                                                      ولا تجز هنا بلا دليل


                                                                                                                                                                                                                                      سقوط مفعولين أو مفعول



                                                                                                                                                                                                                                      ومثال حذف المفعولين معا مع قيام الدليل عليهما ، قوله تعالى : أين شركائي الذين كنتم تزعمون [ 28 \ 62 ] أي : تزعمونهم شركائي ، وقول الكميت :

                                                                                                                                                                                                                                      بأي كتاب أم بأية سنة


                                                                                                                                                                                                                                      ترى حبهم عارا علي وتحسب



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 556 ] أي : وتحسب حبهم عارا علي ، ومثال حذف أحد المفعولين قول عنترة :

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد نزلت فلا تظني غيره


                                                                                                                                                                                                                                      مني بمنزلة المحب المكرم



                                                                                                                                                                                                                                      أي : لا تظني غيره واقعا .

                                                                                                                                                                                                                                      الجواب الثاني : أن فاعل يحسبن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه مذكور في قوله قبله : قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول أي : لا يحسبن محمد - صلى الله عليه وسلم - الذين كفروا معجزين ، وعلى هذا فـ : الذين كفروا مفعول أول ، و معجزين مفعول ثان ، وعزا هذا القول للفراء ، وأبي علي .

                                                                                                                                                                                                                                      الجواب الثالث : أن المعنى : لا يحسبن الكافر الذين كفروا معجزين في الأرض وعزا هذا القول لعلي بن سليمان ، وهو كالذي قبله ، إلا أن الفاعل في الأول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي الثاني الكافر ، وقال الزمخشري : وقرئ لا يحسبن بالياء ، وفيه أوجه أن يكون معجزين في الأرض هما المفعولان .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى : لا يحسبن الذين كفروا أحدا يعجز الله في الأرض ، حتى يطمعوا هم في مثل ذلك ، وهذا معنى قوي جيد ، وأن يكون فيه ضمير الرسول لتقدم ذكره في قوله : قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأن يكون الأصل : لا يحسبنهم الذين كفروا معجزين ، ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول ، وكأن الذي سوغ ذلك أن الفاعل والمفعولين لما كانت لشيء واحد ، اقتنع بذكر اثنين عن ذكر الثالث ، اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      وما ذكره النحاس وأبو حاتم وغيرهما من أن قراءة من قرأ : لا يحسبن بالياء التحتية خطأ أو لحن ، كلام ساقط لا يلتفت إليه; لأنها قراءة سبعية ثابتة ثبوتا لا يمكن الطعن فيه ، وقرأ بها من السبعة : ابن عامر ، وحمزة ; كما تقدم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأظهر الأجوبة عندي : أن معجزين في الأرض هما المفعولان ، فالمفعول الأول معجزين والمفعول الثاني دل عليه قوله : في الأرض أي : لا تحسبن معجزين الله موجودين أو كائنين في الأرض ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية