الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل ) .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة ) قال أبو عبيدة : جميع متاع الدنيا عرض بفتح الراء ، يقال : إن الدنيا عرض حاضر يأخذ منها البر والفاجر ، والعرض بسكون الراء : ما سوى الدراهم والدنانير ، وإنما سمي متاع الدنيا عرضا ؛ لأنه عارض زائل غير باق ، ومنه يسمي المتكلمون ما خالف الجوهر من الحوادث عرضا ؛ لقلة لبثه ، فقوله : ( فعند الله مغانم كثيرة ) يعني : ثوابا كثيرا ، فنبه تعالى بتسميته عرضا على كونه سريع الفناء قريب الانقضاء ، وبقوله : ( فعند الله مغانم كثيرة ) على أن ثواب الله موصوف بالدوام والبقاء ، كما قال : ( والباقيات الصالحات خير عند ربك ) [الكهف : 46] .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( كذلك كنتم من قبل ) وهذا يقتضي تشبيه هؤلاء المخاطبين بأولئك الذين ألقوا السلم ، وليس فيه بيان أن هذا التشبيه فيم وقع ، فلهذا ذكر المفسرون فيه وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن المراد أنكم أول ما دخلتم في الإسلام كما سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة ، حقنت دماءكم وأموالكم من غير توقيف ، ذلك على حصول العلم بأن قلبكم موافق لما في لسانكم ، فعليكم بأن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم ، وأن تعتبروا ظاهر القول ، وأن لا تقولوا : إن إقدامهم على التكلم بهذه الكلمة ؛ لأجل الخوف من السيف . هذا هو الذي اختاره أكثر المفسرين ، وفيه إشكال ؛ لأن لهم أن يقولوا : ما كان إيماننا مثل إيمان هؤلاء ، لأنا آمنا عن الطواعية والاختيار ، وهؤلاء أظهروا الإيمان تحت ظلال السيوف ، فكيف يمكن تشبيه أحدهما بالآخر ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : قال سعيد بن جبير : المراد أنكم كنتم تخفون إيمانكم عن قومكم كما أخفى هذا الداعي إيمانه عن قومه ، ثم من الله عليكم بإعزازكم حتى أظهرتم دينكم ، فأنتم عاملوهم بمثل هذه المعاملة ، وهذا أيضا فيه إشكال ؛ لأن إخفاء الإيمان ما كان عاما فيهم .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : قال مقاتل : المراد كذلك كنتم من قبل الهجرة حين كنتم فيما بين الكفار تأمنون من أصحاب رسول الله بكلمة : " لا إله إلا الله " فاقبلوا منهم مثل ذلك ، وهذا يتوجه عليه الإشكال الأول ، والأقرب عندي أن يقال : إن من ينتقل من دين إلى دين ، ففي أول الأمر يحدث ميل قليل بسبب ضعيف ، ثم لا يزال ذلك الميل يتأكد ويتقوى إلى أن يكمل ويستحكم ويحصل الانتقال ، فكأنه قيل لهم : كنتم في أول الأمر إنما حدث فيكم ميل ضعيف بأسباب ضعيفة إلى الإسلام ، ثم من الله عليكم بالإسلام بتقوية ذلك الميل وتأكيد النفرة عن الكفر ، فكذلك هؤلاء كما حدث فيهم ميل ضعيف إلى الإسلام بسبب هذا الخوف فاقبلوا منهم هذا الإيمان ، فإن الله تعالى يؤكد حلاوة الإيمان في قلوبهم ، ويقوي تلك الرغبة في صدورهم ، فهذا ما عندي فيه .

                                                                                                                                                                                                                                            فمن الله عليكم

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية