الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        [ ص: 156 ] الطرف الثاني في مستند قضائه ، وفيه مسائل ، إحداها : يقضي بالحجة بلا شك ، فلو لم يكن حجة ، وعلم صدق المدعي ، فهل يقضي بعلمه ؟ طريقان أحدهما : نعم قطعا ، وأشهرهما قولان ، أظهرهما عند الجمهور : نعم ؛ لأنه يقضي بشهادة شاهدين ، وهو يفيد ظنا ، فالقضاء بالعلم أولى ، والجواب عما احتج به المانع من التهمة أن القاضي لو قال : ثبت عندي وصح [ لدي ] كذا ، لزمه قبوله بلا خلاف ، ولم يبحث عما ثبت به وصح ، والتهمة قائمة ، وسواء على القولين ما علمه في زمن ولايته ومكانها ، وما علمه في غيرهما ، فإن قلنا : لا يقضي بعلمه ، فذلك إذا كان مستنده مجرد العلم ، أما إذا شهد رجلان تعرف عدالتهما ، فله أن يقضي ويغنيه علمه بها عن تزكيتهما ، وفيه وجه ضعيف للتهمة .

                                                                                                                                                                        ولو أقر بالمدعى في مجلس قضائه . قضى ، وذلك قضاء بإقرار لا بعلمه ، وإن أقر عنده سرا ، فعلى القولين ، وقيل : يقضي قطعا . ولو شهد عنده واحد ، فهل يغنيه علمه عن الشاهد الآخر على قول المنع ؟ وجهان . أصحهما : لا . وإذا قلنا : يقضي بعلمه ، فذلك في المال قطعا وكذا في القصاص وحد القذف على الأظهر ، ولا يجوز في حدود الله تعالى على المذهب ، وقيل : قولان ، ولا يقضي بخلاف علمه بلا خلاف ، بل إذا علم أن المدعي أبرأه عما ادعاه ، وأقام به بينة ، أو أن المدعي قبله حي ، أو رآه قبله غير المدعى عليه ، أو سمع مدعي الرق بعتقه ، ومدعي النكاح يطلقها ثلاثا ، وتحقق كذب الشهود ، امتنع من القضاء قطعا . وكذا إذا علم فسق الشهود ، ثم إن الأصحاب مثلوا القضاء بالعلم الذي هو محل القولين بما ادعى عليه مالا وقد رآه القاضي أقرضه ذلك ، أو سمع المدعى عليه أقر بذلك ، ومعلوم أن [ ص: 157 ] رؤية الإقراض ، وسماع الإقرار لا يفيد اليقين بثبوت المحكوم به وقت القضاء ، فيدل أنهم أرادوا بالعلم الظن المؤكد لا اليقين . الثانية : إذا رأى القاضي ورقة فيها ذكر حكمه لرجل ، وطلب منه إمضاءه والعمل به ، نظر إن تذكره أمضاه على المذهب ، وبه قطع الجمهور ، وفي أمالي أبي الفرج الرزاز إنه على القولين في القضاء بعلمه وإن لم يتذكره ، لم يعتمده قطعا لإمكان التزوير ، وكذا الشاهد لا يشهد بمضمون خطه إذا لم يتذكر ، فلو كان الكتاب محفوظا عنده ، وبعد احتمال التزوير والتحريف ، كالمحضر والسجل الذي يحتاط فيه القاضي على ما سبق ، فالصحيح والمنصوص والذي عليه الجمهور أنه لا يقضي به أيضا ما لم يتذكر ، لاحتمال التحريف ، وكذا الشاهد في مثل هذه الحالة لا يشهد ، وفيهما وجه حكاه الشيخ أبو محمد وغيره أنه يجوز إذا لم يتداخله ريبة .

                                                                                                                                                                        وفي جواز رواية الحديث اعتمادا على الخط المحفوظ عنده وجهان ، أحدهما : المنع ، ولا تكفيه رواية السماع بخطه أو خط ثقة ، والصحيح الجواز ، لعمل العلماء به سلفا وخلفا ، وباب الرواية على التوسعة ، ولو كتب إليه شيخ بالإجازة ، وعرف خطه ، جاز له أن يروي عنه تفريعا على اعتماد الخط ، فيقول : أخبرني فلان كتابة ، أو في كتابة ، أو كتب إلي وهذا على تجويز الرواية بالإجازة وهو الصحيح ، ومنعها القاضي حسين .

                                                                                                                                                                        قلت : وقد منعها أيضا الماوردي في " الحاوي " ونقل هو منعها عن الفقهاء ، وهو أحد قولي الشافعي - رحمه الله - ولكن أظهر قوليه ، والمشهور من مذاهب السلف والخلف ، والذي عليه العمل صحة الإجازة ، وجواز الرواية بها ، ووجوب العمل بها . ثم هي سبعة أنواع قد لخصتها بفروعها وأمثلتها وما يتعلق بها في " الإرشاد " في مختصر علوم الحديث ، وأنا أذكر منها هنا رموزا إلى مقاصدها تفريعا على الصحيح ، [ ص: 158 ] وهو جوازها . الأول : إجازة معين لمعين ، كأجزتك رواية صحيح البخاري ، أو ما اشتملت عليه فهرستي وهذه أعلى أنواعها .

                                                                                                                                                                        الثاني : إجازة غير معين لمعين ، كأجزتك مسموعاتي أو مروياتي والجمهور على أنه كالأول ، فتصح الرواية به ، ويجب العمل بها ، وقيل بمنعه مع قبول الأول .

                                                                                                                                                                        الثالث : أن يجيز لغير معين بوصف العموم ، كأجزت المسلمين ، أو كل أحد أو من أدرك زماني ونحوه ، فالأصح أيضا جوازها ، وبه قطع القاضي أبو الطيب ، وصاحبه الخطيب البغدادي وغيرهما من أصحابنا ، وغيرهم من الحفاظ .

                                                                                                                                                                        ونقل الحافظ أبو بكر الحازمي المتأخر من أصحابنا أن الذين أدركهم من الحفاظ كانوا يميلون إلى جوازها .

                                                                                                                                                                        الرابع : إجازة مجهول أو لمجهول ، كأجزتك كتاب السنن وهو يروي كتبا من السنن ، أو أجزت لزيد بن محمد وهناك جماعة كذلك ، فهذه باطلة . فإن أجاز لمسمين معينين لا يعرف أعيانهم ولا أنسابهم ولا عددهم ، صحت ، كما لو سمعوا منه في مجلسه في مثل هذا الحال .

                                                                                                                                                                        الخامس : الإجازة لمعدوم ، كأجزت لمن يولد لفلان أو لفلان ، ومن يولد له ، فالصحيح بطلانها ، وبه قطع القاضي أبو الطيب ، وابن الصباغ ، وجوزه الخطيب وغيره . والإجازة للطفل الذي لا يميز صحيحة على الصحيح ، وبه قطع القاضي أبو الطيب ، ونقله الخطيب عن شيوخه كافة .

                                                                                                                                                                        السادس : إجازة ما لم يسمعه المجيز ، ولم يتحمله بوجه ليرويه المجاز له إذا تحمله المجيز ، وهي باطلة قطعا .

                                                                                                                                                                        السابع : إجازة المجاز وهي صحيحة عند أصحابنا ، وهو الصواب الذي قطع به الحفاظ الأعلام من أصحابنا وغيرهم ، منهم الدارقطني [ ص: 159 ] وأبو نعيم الأصفهاني ، والشيخ أبو الفتح نصر المقدسي وغيرهم من أصحابنا . وإذا كتب الإجازة ، استحب أن يتلفظ بها ، ولو اقتصر على الكتابة مع قصد الإجازة ، صحت كالقراءة عليه مع سكوته ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية