الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                        [ ص: 245 ] كتاب العارية .

                                                                                                        قال : ( العارية جائزة ) ; لأنها نوع إحسان ، وقد { استعار النبي عليه الصلاة والسلام دروعا من صفوان }( وهي تمليك المنافع بغير عوض ) وكان الكرخي رحمه الله يقول : هي إباحة الانتفاع بملك الغير ; لأنها تنعقد بلفظة الإباحة ، ولا يشترط فيها ضرب المدة ومع الجهالة لا يصح التمليك ولذلك يعمل فيها النهي ; ولا يملك الإجارة من غيره ، ونحن نقول : إنه ينبئ عن التمليك ، فإن العارية من العرية وهي العطية ، ولهذا تنعقد بلفظة التمليك والمنافع قابلة للملك كالأعيان .

                                                                                                        والتمليك نوعان : بعوض وبغير عوض ; ثم الأعيان تقبل النوعين فكذا المنافع والجامع بينهما دفع الحاجة ، ولفظة الإباحة استعيرت للتمليك كما في الإجارة فإنها تنعقد بلفظة الإباحة وهي تمليك ، والجهالة لا تفضي إلى المنازعة لعدم اللزوم فلا تكون ضائرة ; ولأن الملك إنما يثبت بالقبض وهو الانتفاع وعند ذلك لا جهالة ، والنهي منع عن التحصيل فلا يتحصل المنافع على ملكه ولا يملك الإجارة لدفع زيادة الضرر على ما نذكره إن شاء الله تعالى .

                                                                                                        [ ص: 242 - 245 ]

                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                        [ ص: 242 - 245 ] كتاب العارية

                                                                                                        الحديث الأول : روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار دروعا من صفوان }; قلت : أخرجه أبو داود ، والنسائي عن شريك عن عبد العزيز بن رفيع عن أمية بن صفوان بن أمية عن أبيه { صفوان بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه دروعا يوم حنين ، فقال : أغصبا يا محمد ؟ قال : بل عارية مضمونة }انتهى ، ورواه أحمد في " مسنده " ، والحاكم في " المستدرك في [ ص: 246 ] البيوع " ، وسكت عنه ، وإنما قال : وله شاهد صحيح ، ثم أخرجه عن خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار من صفوان بن أمية أدرعا وسلاحا في غزوة حنين ، فقال : يا رسول الله أعارية مؤداة ؟ قال : نعم عارية مؤداة }انتهى .

                                                                                                        وقال : حديث صحيح على شرط مسلم انتهى ، وأخرجه الدارقطني ، ثم البيهقي عن إسحاق بن عبد الواحد ثنا خالد بن عبد الله عن خالد الحذاء ، قال في " التنقيح " : قال أبو علي الحافظ : إسحاق بن عبد الواحد متروك الحديث انتهى .

                                                                                                        وأخرجه الحاكم أيضا في " المغازي " من طريق ابن إسحاق حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه جابر بن عبد الله { أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد المسير إلى حنين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صفوان بن أمية فسأله أدراعا ، مائة درع ، وما يصلحها من عدتها ، فقال : أغصبا يا محمد ؟ فقال : بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك ، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم }مختصر ، وقال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه انتهى . وله طريق أخرى مرسلة في " السنن " فأخرجه أبو داود عن جرير عن عبد العزيز بن رفيع { عن أناس من آل عبد الله بن صفوان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا صفوان ، هل عندك من سلاح }؟ الحديث ; وعن أبي الأحوص عن عبد العزيز بن رفيع عن عطاء عن ناس من آل صفوان ، قال : { استعار رسول الله صلى الله عليه وسلم } ، وأخرجه النسائي عن إسرائيل عن عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة عن عبد الرحمن بن صفوان بن أمية { أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار من صفوان }.

                                                                                                        وعن هاشم [ ص: 247 ] عن حجاج عن عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره ، يبقى الإشكال في الروايتين ، إحداهما قال : { بل عارية مضمونة } ، والأخرى قال : { بل عارية مؤداة } ، والروايتان عند أبي داود ، والنسائي ، كلاهما في " عارية صفوان " ، قال : صاحب " التنقيح " بعد ذكره الروايتين : وهذا دليل على أن العارية منقسمة إلى مؤداة ، ومضمونة ، قال : ويرجع ذلك إلى المعير ، فإن شرط الضمان كانت مضمونة ، وإلا فهي أمانة قال : وهو مذهب أحمد ، وعنه أنها مضمونة بكل حال ، وقال أبو حنيفة : لا يضمن إلا إذا فرط فيها ، وحجته : { ليس على المستعير غير المغل ضمان }انتهى .

                                                                                                        قلت : بل هما واقعتان ، يدل عليه ما رواه عبد الرزاق في " مصنفه " في أثناء " البيوع " أخبرنا معمر عن بعض بني صفوان { عن صفوان أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه عاريتين : إحداهما بضمان ، والأخرى بغير ضمان }انتهى .

                                                                                                        أحاديث الباب : أخرج أبو داود ، والنسائي عن قتادة عن عطاء بن أبي رباح عن صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه { يعلى بن أمية ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين بعيرا ، وثلاثين درعا ، قال : فقلت : يا رسول الله أعارية مضمونة ، أو عارية مؤداة ؟ قال : بل مؤداة }انتهى ، ورواه ابن حبان في " صحيحه " في النوع الحادي عشر ، من القسم الرابع ، قال عبد الحق في " أحكامه " : حديث يعلى بن أمية أصح من حديث صفوان بن أمية ، قال ابن القطان : وذلك ; لأن حديث صفوان هو من رواية شريك عن عبد العزيز بن رفيع ، ولم يقل : حدثنا ، وهو مدلس ، وأما أمية بن صفوان فخرج له مسلم ، انتهى كلامه . وقال في موضع آخر : وهم ثلاثة ولوا القضاء ، فساء حفظهم بالاشتغال عن الحديث : محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى . وشريك ، وقيس بن الربيع ، ثم إن شريكا مدلس ، ولم يذكر السماع انتهى .

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه البخاري ، ومسلم عن شعبة عن قتادة عن أنس ، قال : { كان فزع بالمدينة ، فاستعار النبي صلى الله عليه وسلم فرسا من أبي طلحة ، يقال له : المندوب : فركب ، فلما [ ص: 248 ] رجع ، قال : ما رأينا من شيء ، وإن وجدناه لبحرا }انتهى ، رواه البخاري في " الجهاد " ، ومسلم في " الفضائل " .

                                                                                                        { حديث آخر } : رواه الطبراني في " معجمه " حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي ثنا عبد الوهاب بن الضحاك ثنا إسماعيل بن عياش عن الأوزاعي عن الزهري عن أبي سلمة عن الشفاء بنت عبد الله قالت : { أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله ، فجعل يعتذر إلي وأنا ألومه ، فحضرت الصلاة ، فخرجت فدخلت على ابنتي وهي تحت شرحبيل بن حسنة ، فوجدت شرحبيل في البيت ، فقلت : قد حضرت الصلاة ، وأنت في البيت ؟ فجعلت ألومه ، فقال : يا خالة لا تلوميني ، فإنه كان لنا ثوب ، فاستعاره النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت : بأبي وأمي ، كنت ألومه منذ اليوم ، وهذه حاله ، ولا أشعر ؟ فقال شرحبيل : ما كان إلا درع دفعناه }انتهى .

                                                                                                        الحديث الثاني : قال صلى الله عليه وسلم : { المنحة مردودة ، والعارية مؤداة }; قلت : روي من حديث أبي أمامة ; ومن حديث ابن عمر ; ومن حديث ابن عباس ; ومن حديث [ ص: 249 ] أنس . فحديث أبي أمامة : أخرجه أبو داود عن إسماعيل بن عياش عن شرحبيل بن مسلم عن أبي أمامة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث ، }إلى أن قال : { العارية مؤداة ، والمنحة مردودة } ، قال الترمذي : حديث حسن ، وأخرجه ابن حبان في " صحيحه " في النوع السادس والستين ، من القسم الثالث عن الجراح بن مليح النهراني ثنا حاتم بن حريث الطائي ، سمعت أبا أمامة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { العارية مؤداة ، والمنحة مردودة }انتهى وكذلك أخرجه الطبراني في " معجمه " ، وقد تقدم الكلام على الحديث في " الكفالة " . وأما حديث ابن عمر : فرواه البزار في " مسنده " حدثنا عبد الله بن شبيب ثنا إسحاق بن محمد ثنا عبيد الله بن عمر عن زيد بن أسلم عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { العارية مؤداة }انتهى .

                                                                                                        وقال : لا نعلمه يروى عن ابن عمر إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد . وأما حديث ابن عباس : فأخرجه ابن عدي في " الكامل " عن إسماعيل بن أبي زياد السكوني قاضي الموصل ثنا سفيان الثوري عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { الزعيم غارم ، والدين مقضي ، والعارية مؤداة ، والمنحة مردودة }انتهى .

                                                                                                        وأعله بإسماعيل هذا ، وقال : إنه منكر الحديث ، وعامة ما يرويه لا يتابع عليه . [ ص: 250 ] وأما حديث أنس : فرواه الطبراني في " مسند الشاميين " ، وقد تقدم في " الكفالة " .

                                                                                                        { حديث آخر } : مرسل ، أخرجه الدارقطني ، ثم البيهقي في " سننيهما في البيوع " عن عطاء بن أبي رباح ، قال : { أسلم قوم في أيديهم عواري المشركين ، فقالوا : قد أحرز لنا الإسلام ما بأيدينا من عواري المشركين ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن الإسلام لا يحرز لكم ما ليس لكم ، العارية مؤداة ; فأدى القوم ما بأيديهم من العواري }انتهى . [ ص: 251 ] قال الدارقطني : هذا مرسل ، ولا تقوم به حجة انتهى




                                                                                                        الخدمات العلمية