الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما حكم السرقة فنقول - وبالله التوفيق - : للسرقة حكمان : أحدهما : يتعلق بالنفس ، والآخر : يتعلق بالمال ( أما ) الذي يتعلق بالنفس فالقطع لقوله سبحانه وتعالى { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } ; ولما روينا من الأخبار ، وعليه إجماع الأمة ، فالكلام في هذا الحكم يقع في مواضع : في بيان صفات هذا الحكم ، وفي بيان محل إقامته ، وفي بيان من يقيمه ، وفي بيان ما يسقط بعد ثبوته ، وفي بيان حكم السقوط بعد الثبوت ، أو عدم الثبوت أصلا لمانع من الشبهة .

                                                                                                                                ( أما ) صفات هذا الحكم فأنواع : ( منها ) أن يبقى وجوب ضمان المسروق عندنا فلا يجب الضمان والقطع في سرقة واحدة ، ولقب المسألة أن الضمان ، والقطع هل يجتمعان في سرقة واحدة ؟ عندنا لا يجتمعان حتى لو هلك المسروق في يد السارق بعد القطع ، أو قبله لا ضمان عليه ، وعند الشافعي - رحمه الله - : فيقطع ، ويضمن ما استهلكه .

                                                                                                                                ( وجه ) قوله : أنه وجد من السارق سبب وجوب القطع والضمان ; فيجبان جميعا ، وإنما قلنا ذلك ; لأنه وجد منه السرقة ، وإنها سبب لوجوب القطع ، والضمان ; لأنها جناية حقين : حق الله - عز وجل - وحق المسروق منه .

                                                                                                                                ( أما ) الجناية على حق الله - سبحانه وتعالى - فهتك حرمة حفظ الله - سبحانه وتعالى - إذ المال حال غيبة المالك محفوظ بحفظ الله - سبحانه وتعالى - .

                                                                                                                                ( وأما ) الجناية على حق العبد فبإتلاف ماله ، فكانت الجناية على حقين ، فكانت مضمونة بضمانين فيجب ضمان القطع من حيث إنها جناية على حق الله - سبحانه وتعالى - وضمان المال من حيث إنها جناية على حق العبد ، كمن شرب خمر الذمي أنه يجب عليه الحد حقا لله تعالى ، والضمان حقا للعبيد ، وكذا قتل الخطأ يوجب الكفارة حقا لله تعالى ، والدية حقا للعبد ، كذا هذا ، والدليل عليه أن المسروق لو كان قائما يجب رده على المالك فدل أنه بقي معصوما حقا للمالك .

                                                                                                                                ( ولنا ) الكتاب ، والسنة ، والمعقول : أما الكتاب العزيز فقوله سبحانه وتعالى { ، والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا } ، والاستدلال بالآية من وجهين : أحدهما : أن الله - سبحانه وتعالى - سمى القطع جزاء ، والجزاء يبنى على الكفاية فلو ضم إليه الضمان لم يكن القطع كافيا فلم يكن جزاء تعالى الله - سبحانه عز شأنه - عن الخلف في الخبر والثاني : أنه جعل القطع كل الجزاء ; لأنه عز شأنه ذكره ، ولم يذكر غيره فلو أوجبنا الضمان لصار القطع بعض الجزاء ; فيكون نسخا لنص الكتاب العزيز .

                                                                                                                                وأما السنة فما روي عن - سيدنا - عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { : إذا قطع السارق فلا غرم عليه } ، والغرم في اللغة ما يلزم أداؤه ، وهذا نص في الباب .

                                                                                                                                ( وأما ) المعقول فمن وجهين : أحدهما : بناء ، والآخر ابتداء ( أما ) وجه البناء فهو : أن المضمونات عندنا تملك عند أداء الضمان ، أو اختياره من وقت الأخذ فلو ضمنا السارق [ ص: 85 ] قيمة المسروق ، أو مثله لملك المسروق من وقت الأخذ فتبين أنه قطع في ملك نفسه ، وذلك لا يجوز .

                                                                                                                                ( وأما ) ، وجه الابتداء فما قاله بعض مشايخنا وهو : أن الضمان إنما يجب بأخذ مال معصوم ثبتت عصمته حقا للمالك ; فيجب أن يكون المضمون بهذه الصفة ; ليكون اعتداء بالمثل في ضمان العدوانات ، والمضمون حالة السرقة خرج من أن يكون معصوما حقا للمالك بدلالة وجوب القطع ، ولو بقي معصوما حقا للمالك لما وجب ، إذ الثابت حقا للعبد يثبت لدفع حاجته ، وحاجة السارق كحاجة المسروق منه فتتمكن فيه شبهة الإباحة ، وإنها تمنع وجوب القطع .

                                                                                                                                والقطع واجب فينتفي الضمان ضرورة إلا أنه وجب رد المسروق حال قيامه ; لأن وجوب الرد يقف على الملك لا على العصمة ، ألا ترى أن من غصب خمر المسلم يؤمر بالرد إليه ; لقيام ملكه فيها ، ولو هلكت في يد الغاصب لا ضمان عليه ; لعدم العصمة فلم يكن من ضرورة سقوط العصمة الثابتة حقا للعبد زوال ملكه عن المحل ، وههنا الملك قائم فيؤمر بالرد إليه ، والعصمة زائلة فلا يكون مضمونا بالهلاك ، ويخرج على هذا الأصل مسائل إذا استهلك السارق المسروق بعد القطع لا يضمن في ظاهر الرواية ، وروى الحسن عن أبي حنيفة - رحمه الله - أنه يضمن .

                                                                                                                                ( وجه ) هذه الرواية : أن المسروق بعد القطع بقي على ملك المسروق منه ألا ترى أنه يجب رده على المالك ، وقبض السارق ليس بقبض مضمون ، فكان المسروق في يده بمنزلة الأمانة فإذا استهلكها ضمن .

                                                                                                                                ( وجه ) ظاهر الرواية : أن عصمة المحل الثابتة حقا للمالك قد سقطت في حق السارق لضرورة إمكان إيجاب القطع ، فلا يعود إلا بالرد إلى المالك فلم يكن معصوما قبله ; فلا يكون مضمونا ، ولو استهلك ; رجل آخر يضمنه ; لأن العصمة إنما سقطت في حق السارق لا في حق غيره ; فيضمن ، ولو سقط القطع لشبهة ضمن ; لأن المانع من الضمان هو القطع ، قد زال المانع .

                                                                                                                                ولو باع السارق المسروق من إنسان ، أو ملكه منه بوجه من الوجوه ، فإن كان قائما فلصاحبه أن يأخذه ; لأنه عين ملكه ، وللمأخوذ منه أن يرجع على السارق بالثمن الذي دفعه ; لأن الرجوع بالثمن لا يوجب ضمانا على السارق في عين المسروق ; لأنه يرجع عليه بثمن المسروق لا بقيمته ليوجب ذلك ملك المسروق للسارق ، وإن كان هلك في يده فلا ضمان على السارق ، ولا على القابض هكذا روي عن أبي يوسف ، أما السارق ; فلأن القطع ينفي الضمان .

                                                                                                                                ( وأما ) المشتري ; فلأنه لو ضمنه المالك لكان له أن يرجع بالضمان على السارق فيصير كأن المالك ضمن السارق ، وقطعه ينفي الضمان عنه ، وإن كان استهلكه القابض كان للمالك أن يضمنه القيمة ; لأنه قبض ماله بغير إذنه ، وهلك في يده ، وللمشتري أن يرجع على السارق بالثمن ; لأن الرجوع بالثمن ليس بتضمين ولو اغتصبه إنسان من السارق فهلك في يده بعد القطع فلا ضمان للسارق ، ولا للمسروق منه ، ( أما ) السارق ; فلأنه ليس بمالك .

                                                                                                                                ( وأما ) المالك ; فلأن العصمة الثابتة له حقا قد بطلت ، قال القدوري : وكان للمولى أن يضمنه الغاصب ; لأنه لو ضمن لا يرجع بالضمان على السارق ، وعلى هذا يخرج ما إذا سرق ثوبا فخرقه في الدار خرقا فاحشا ، ثم أخرجه وهو يساوي عشرة دراهم لا يقطع ; لأن الخرق الفاحش سبب لوجوب الضمان ، وأنه يوجب ملك المضمون ، وذلك يمنع القطع ، وإن خرقه عرضا ; فقد مر الاختلاف فيه .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية