الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 55 ] إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا .

                          لا يزال الكلام في أهل الكتاب عامة ، وكان أول هذا السياق أنهم يفرقون بين الله ورسله ، فيدعون الإيمان ببعضهم ، ويصرحون بالكفر ببعض ، وأن هذا عين الكفر ، وإيمان يتبع فيه الهوى ليس من معرفة الله ، ومعنى رسالته في شيء ، ثم ذكر بعده شيء من عناد اليهود خاصة ، وإعناتهم وسؤالهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينزل عليهم كتابا من السماء ، وبين له - تعالى - أنهم شاغبوا موسى - صلى الله عليه وسلم - من قبله ، وسألوه ما هو أكبر من ذلك ، وكفروا بعيسى وبهتوا أمه ، وحاولوا قتله وصلبه ، فليس كفرهم وعنادهم ناشئا عن عدم وضوح الدليل . بل عن عناد أصيل وهوى دخيل ، كأنه يقول له : إنه لولا ذلك لبادروا إلى الإيمان بك أيها الرسول ، ولما شاغبوك بهذا القال والقيل ; لأن أمر نبوتك ورسالتك أوضح دليلا ، وأقوم قيلا مما يدعون الإيمان بمثله ممن قبلك ; ولهذا ناسب أن يختم الكلام في محاجة اليهود ، ويمهد للكلام في محاجة النصارى ببيان أن الوحي جنس واحد ، وأنه لو كان إيمانهم بمن يدعون الإيمان بهم من الرسل السابقين صحيحا مبنيا على الفهم والبصيرة لما كفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فقال عز وجل :

                          إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده أي : إنا بما لنا من العظمة والإرادة [ ص: 56 ] المطلقة اللائقة بمقام الألوهية ، والرحمة الواسعة التي هي شأن الربوبية ، قد أوحينا إليك يا محمد هذا القرآن ، كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ، الذين يدعي الإيمان بهم هؤلاء الناس ، ولم ننزل على أحد من أممهم ولا منهم كتابا من السماء ، كما سألوك للتعجيز والعناد ; لأن الوحي ضرب من الإعلام السريع الخفي ، وما هو بالأمر المشاهد الحسي ، بل هو أمر روحي ، يعد الله له النبي وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ( 42 : 52 ) .

                          الوحي في اللغة يطلق على الإشارة والإيماء ، ومنه قوله - تعالى - فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا ( 19 : 11 ) وعلى الإلهام الذي يقع في النفس ، وهو أخفى من الإيمان ، ومنه قوله عز وجل وأوحينا إلى أم موسى ( 27 : 7 ) ويظهر أن هذا بعناية خاصة من الله ، تعالى . وعلى ما يكون غريزية دائمة ، ومنه قوله ، تعالى : وأوحى ربك إلى النحل ( 16 : 68 ) وعلى الإعلام في الخفاء ، وهو أن تعلم إنسانا بأمر تخفيه عن غيره ، ومنه قوله ، تعالى : شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض ( 6 : 112 ) وأطلق على الكتابة والرسالة ; لما يكون فيهما من التخصيص . ووحي الله إلى أنبيائه هو : ما يلقيه إليهم من العلم الضروري الذي يخفيه عن غيرهم ، بعد أن يكون أعد أرواحهم لتلقيه بواسطة كالملك أو بغير واسطة ، وعرفه الأستاذ الإمام في رسالة التوحيد بأنه : " عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله ، بواسطة أو بغير واسطة ، والأول بصوت يتمثل لسمعه أو بغير صوت ، ويفرق بينه وبين الإلهام بأن الإلهام وجدان تستيقنه النفس وتنساق إلى ما يطلب على غير شعور منها من أين أتى ؟ وهو أشبه بوجدان الجوع والعطش والحزن والسرور " .

                          ثم بين وجه إمكانه ووقوعه في فصلين لم ينسج أحد على منوالهما .

                          بدأ الله - تعالى - بذكر نوح لأنه أقدم نبي مرسل ذكر في كتب القوم ( وقصة بعثته في سفر التكوين ، وهو السفر الأول من الأسفار التي يسمونها التوراة ) وإنما تنهض الحجة على الناس إذا كانت مقدماته معروفة عندهم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية