الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            17 - البارع في إقطاع الشارع

            بسم الله الرحمن الرحيم

            الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ، عرض علي ورقة صورتها : فرع : يجوز للإمام إقطاع الشارع على الأصح فيصير المقطع به كالمتحجر ولا يجوز لأحد تملكه بالإحياء ، وفي وجه غريب يجوز للإمام تملك ما فضل عن حاجة الطريق ، ومراد قائله أن للإمام التملك للمسلمين لا لنفسه . وذكر الرافعي في الجنايات أنه تقدم في الإحياء أن الأكثرين جوزوا الإقطاع وأن المقطع يبني فيه ويتملك ، وهذا ذهول فإن الأصح في الصلح منع البناء وهنا منع التملك انتهى .

            وأقول : هذا الفرع منقول برمته من التكملة للزركشي ، والكلام عليه من وجهين : الوجه الأول : في ذكر حكم المسألة إجمالا ، وحكمها على ما هو المفهوم من المنقول بعد مراجعة ما تيسر من كتب المذهب كالروضة ، والشرح ، وتهذيب البغوي ، وكافي الخوارزمي ، ونهاية إمام الحرمين ، وبسيط الغزالي ، ووسيطه ، والأحكام السلطانية للماوردي ، والتلخيص لابن القاص ، والبلغة للجرجاني ، وتعليق القاضي الحسين ، [ ص: 152 ] وغير ذلك ، ومن كتب المتأخرين الكفاية لابن الرفعة ، وشرح المنهاج للسبكي ، والمهمات ، والخادم أن الإمام إذا أقطع أحدا موضعا من الشارع كان المقطع أولى به من غيره ؛ للارتفاق خاصة دون التملك والبناء ، وأنه لو جاء أحد بعد صدور الإقطاع إلى هذا الموضع فجلس فيه أزعج منه ولا يقر ، ولو كان المقطع غائبا عنه وليس فيه أمتعته ، فإن قلت : مقتضى قوله كالمتحجر أنه لو جاء أحد وتعدى وجلس لم يمنع لأن المشبه به وهو المتحجر قالوا أنه يصير أحق من غيره ، ومع ذلك لو تعدى غيره وبنى لم يكن عليه سوى الإثم ويملك البقية بالإحياء ، ومقتضى ذلك أن المتعدي هنا ليس عليه سوى الإثم ولا يزعج ، قلت : ليس الأمر كذلك كما سنبينه مفصلا .

            الوجه الثاني : في الكلام على ذلك من حيث التفصيل فنقول في هذا الفرع : المسؤول عنه أمور : أحدها : أن قوله كالمتحجر زيادة زادها الزركشي ، وليست في كلام الشيخين ولا غيرهما كما سنبين ذلك عند سياق عباراتهم ، وحينئذ فلا يرد أصلا السؤال المتقدم ، وعلى تقدير توجهه فالجواب عنه من ثلاثة أوجه : الوجه الأول : أن القاعدة المقررة أنه لا يلزم استواء المشبه والمشبه به من كل وجه فيكون التشبيه في الأحقية فقط لا في القدر الزائد أيضا من حصول متعد بعد ثبوت الأحقية وهذا واضح . الثاني : الفرق بين الصورتين فإن مسألة المتحجر البقعة فيها تقبل التملك ، فإذا وجد الإحياء الذي هو أقوى سببا عمل بمقتضاه وقدم على التحجر الذي هو أضعف ، وذلك من باب نسخ السبب الضعيف لوجود أقوى منه ، ونظيره إدخال الحج على العمرة ، وطروء الحدث الأكبر على الأصغر ، وتقديم المباشرة على السبب في باب الجنايات .

            وأما مسألة الشارع فالبقعة فيها لا تقبل التملك ، فلم يوجد سبب أقوى يقدم على هذا السبب فتمسكنا بالسبب السابق الذي هو إقطاع الإمام وألغي كل ما طرأ بعده ، الثالث : أن قوله عقب هذا التشبيه ولا يجوز لأحد تملكه بالإحياء يجري مجرى القيد لمحل التشبيه ، فيكون في معنى قوله إنه كالمتحجر ، إلا أنه لا يجوز لأحد أن يتملكه ، فتكون هذه الجملة مخرجة لتلك الصورة المذكورة في المتحجر وهو تعدي شخص عليه بالإحياء فلا تأتي هنا ، ويكون إخراجها من منطوق الكلام لا من مفهومه ، ولهذا عبر بقوله : لأحد ، الدال على العموم ، ولم يقل : ولا يجوز له تملكه ، أي للمقطع ليفيد أن المقطع وغيره في ذلك سواء ، فبكل من هذه الأوجه الثلاثة عرف أن العبارة لا تعطي ذلك المقتضى المذكور ، ووجه رابع : وهو أنه شبهه بالمتحجر من حيث إنه لم يملك البقعة بالتحجر وكذلك هو لا يملك البقعة بالإقطاع ، [ ص: 153 ] وعلى هذا فقوله بعده : ولا يجوز لأحد تملكه بالإحياء جار مجرى التفسير لا مجرى التقييد .

            الأمر الثاني : أن قوله : وذكر الرافعي في الجنايات إلى قوله وهذا ذهول سبقه إليه ابن الرفعة في الكفاية ، ثم السبكي في شرح المنهاج : ثم الأسنوي في المهمات : فاعتمده الزركشي هنا ، وحاول في الخادم التأويل والجمع بين كلام الرافعي ، ونحن نسوق ما تيسر من عبارات الأصحاب في المسألة ، قال في الروضة : وهل لإقطاع الإمام فيه مدخل ؟ وجهان أصحهما عند الجمهور نعم ، وهو المنصوص ؛ لأن له فيه نظرا ، ولهذا يزعج من أضر جلوسه ، وأما تملك شيء من ذلك فلا سبيل إليه بحال ، وحكي وجه في الرقم للعبادي وفي شرح مختصر الجويني لأبي طاهر أن للإمام أن يتملك من الشوارع ما فضل عن حاجة الطرق ، والمعروف الأول - هذه عبارة الروضة ، فانظر كيف لم يذكر فيها قوله كالمتحجر .

            وقال البغوي في التهذيب : القطائع قسمان أحدهما : ما يملك وهو ما مضى من إحياء الموات . والثاني : إقطاع إرفاق لا تملك فيه كمقاعد الأسواق والطرق الواسعة ، ويجوز للسلطان إقطاعه لكنه لا يملكه بل يكون أولى به ، ويمنع أن يبني دكة لأنه يضيق الطريق ويضر بالضرير وبالبصير بالليل ، وإذا أقطع السلطان موضعا كان أحق به سواء نقل متاعه إليه أو لم ينقل ؛ لأن للإمام النظر والاجتهاد ، وإذا أقطعه ثبت يده عليه ، وقال الخوارزمي في الكافي : القطائع ضربان إقطاع إرفاق ، وإقطاع تملك ، أما إقطاع الإرفاق ، وهو أن يقطع الإمام أو نائبه من إنسان موضعا من مقاعد الأسواق والطريق الواسعة ليجلس فيه للبيع والشراء فيجوز إذا كان لا يضر بالمارة ، هذا هو المذهب ، ولو أقطعه السلطان موضعا منه لا يملكه ويكون أولى به نقل متاعه إليه ، أو لم ينقل ، ولو قام عنه أو غاب عنه لا ينقطع حقه عنه حتى لو عاد كان أولى به ، ولو قعد فيه بالسبق من غير إقطاع كان أولى به ما دام هو فيه ، وكذا لو قام وترك فيه شيئا من متاعه فليس لغيره إزعاجه منه ، ولو لم يترك فيه شيئا فسبق إليه غيره كان الثاني أحق به ، والفرق بينهما أن الاستحقاق تم بالإقطاع وهو باق بعد الذهاب ، والاستحقاق هاهنا بكونه فيه وقد زال - هذا هو المذهب ، انتهى كلام الخوارزمي بحروفه .

            فانظر كيف صرح بأن المقطع أحق به ، ولو قام أو غاب ولم يكن له فيه متاع ، وإنه لو أراد أحد الجلوس فيه في غيبته أزعج بخلاف من قعد بالسبق من غير إقطاع إذا قام ولم يترك متاعه كان لغيره الجلوس فيه ، ثم فرق بين المسألتين ببقاء الاستحقاق بعد الذهاب بالإقطاع وهذا ما قدمنا ذكره في أول الكلام على المسألة ، وقال الماوردي في [ ص: 154 ] الأحكام السلطانية : وأما القسم الثالث : وهو ما اختص بأفنية الشوارع والطرقات فهو موقوف على نظر السلطان ، وفي حكم نظره وجهان : أحدهما : أن نظره فيه مقصور على كفهم عن التعدي ومنعهم من الإضرار والإصلاح بينهم عند التشاجر ، وليس له أن يقيم جالسا ، ولا أن يقدم مؤخرا ، ويكون السابق إلى المكان أحق به من المسبوق .

            والوجه الثاني : أن نظره فيه نظر مجتهد فيما يراه صلاحا من إجلاس من يجلسه ومنع من يمنعه وتقديم من يقدمه كما يجتهد في أموال بيت المال وإقطاع الموات ، ولا يجعل السابق أحق على هذا الوجه ، وليس له على الوجهين أن يأخذ منهم على الجلوس أجرا ، وإذا تاركهم على التراضي كان السابق إلى المكان أحق من المسبوق انتهى .

            والوجه الثاني : هو الذي ذكر في الروضة أنه الأصح فانظر كيف صرح الماوردي بأن السابق لا يجعل أحق على هذا الوجه تقديما لإقطاع الإمام ، وقال السبكي في شرح المنهاج : وهل لإقطاع الإمام مدخل في الشوارع ؟ وجهان ، أصحهما نعم ، ورجحه الأكثرون ، ونص عليه الشافعي ؛ لأن للإمام نظرا واجتهادا في أن الجلوس في الموضع هل هو مضر أو لا ؟ ولهذا يزعج من رأى جلوسه مضرا ، وإنما يزعجه الإمام ، وإذا كان لاجتهاده فيه مدخل فكذلك لإقطاعه .

            والثاني : وهو اختيار الجوري ، والقفال ، ورجحه الغزالي أنه لا مدخل للإقطاع في ذلك ؛ لأنها منتفع بها من غير عمل فأشبهت المعادن الظاهرة ؛ ولأنه لا مدخل للتمليك فيها فلا معنى للإقطاع بخلاف الموات ، قال الرافعي : وللنزاع فيه مجال في قوله لا مدخل للتمليك فيه ؛ لأن في الرقم للعبادي ، وفي شرح مختصر الجويني لابن طاهر رواية وجه : أن للإمام أن يتملك من الشوارع ما فضل عن حاجة الطرق ، وزاد الرافعي فقال في كتاب الجنايات : فيما إذا حفر بئرا في شارع بإذن الإمام أن الذي أورده أصحابنا العراقيون ، والروياني ، وصاحب التتمة لا ضمان ، وجوزوا أن يخصص الإمام قطعة من الشارع ببعض الناس ، فإن الخلاف راجع إلى ما تقدم في إحياء الموات أن إقطاع الإمام هل له مدخل في الشوارع ؟ وبينا أن الأكثرين قالوا : نعم وجوزوا للمقطع أن يبني فيه ويتملكه ، هذا كلامه في الجنايات ، قال السبكي : ولم يتقدم منه في إحياء الموات إلا ما ذكرناه ، فقوله : بينا أن الأكثرين قالوا نعم يريد به تجويز الإقطاع ، وهو صحيح ، وقوله : وجوزوا للمقطع أن يبني فيه يمكن تمشيته على قول من يقول بجواز بناء دكة في الشارع ، وقد تقدم في الصلح أن الأصح خلافه ، وقوله ويتملكه لا يمكن تمشيته إلا على ما حكاه هنا عن الرقم ، وشرح مختصر الجويني وهو وجه غريب منكر لا يكاد يعرف [ ص: 155 ] فلا يبنى عليه ، قال : والظاهر أن الرافعي لما تكلم في الجنايات طال عهده بما ذكره في الصلح وفي إحياء الموات ولم يحرره ، قال ابن الرفعة : وكيف قدر فهو بعيد إلا إذا جهل السبب الذي صار به الشارع شارعا وإذا جهل السبب ، ومنه ما يمتنع معه التملك جزما ، ومنه ما لا يكون كذلك فكيف يقدم على تمليكه ، وأيضا فإن الشارع وإن اتسع في وقت قد يكون في وقت آخر بقدر الحاجة أو أضيق وهو موضوع شارعا لعموم الأوقات ، قال السبكي : وهذا الذي قاله ابن الرفعة صحيح ، ثم قال : وإذا جوزنا الإقطاع في ذلك فإنما معناه أن يصير المقطع أحق بالارتفاق به من غيره قال : وقد تكرر في كلام الشافعي والأصحاب أن الإقطاع قسمان : إقطاع إرفاق : وهو هذا ، وإقطاع تمليك : وهو ما تقدم في الموات ليتملك بالإحياء ، فالشارع وإن أطلق عليه اسم الموات فيما عدا المرور ونحوه لا يدخله الإحياء ولا الحمى ولا إقطاع التمليك ، ثم قال السبكي : فرع عن الأحكام السلطانية للماوردي : إذا قلنا بدخول الإقطاع فلا يجعل السابق أحق ، قال : فإن أراد السابق بعد الإقطاع فصحيح ؛ لأن بالإقطاع صار المقطع أحق ، وأما إذا سبق واحد قبل الإقطاع فينبغي أن يمتنع الإقطاع لغيره ما دام حقه باقيا ، ولا يأتي فيه خلاف لقوله - صلى الله عليه وسلم - : من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به .

            وحاصله أن السبق موجب للأحقية قطعا بالحديث ، والإقطاع موجب للأحقية على الصحيح ، فإن تعارضا قدم الأقدم تاريخا ، ولو فرضنا أنهما حصلا في وقت واحد فينبغي تقديم السبق ؛ لأنه ثابت بالنص ، وإنما لم نقدمه بعد الإقطاع لأنا نجعل الإقطاع سبقا ، انتهى كلام السبكي .

            فانظر كيف نقل عن الماوردي أن السابق مع الإقطاع لا حق له ، وحمله على السابق بعد صدور الإقطاع ، وقال : إنه صحيح ، وعلله بأن بالإقطاع صار المقطع أحق وبأنا نجعل الإقطاع سبقا ، وهو عين ما نقلناه في أول الكلام على المسألة .

            الأمر الثالث : في بقية ما يتعلق بكلام الرافعي قال في المهمات بعد سياق كلاميه : ولا شك في أن المذكور هناك - يعني في الجنايات - سهو فإنه أحال على المذكور هنا فأطلق القول من غير إمعان ، وقال في الخادم بعد أن ساق كلام الرافعي ، وكلام ابن الرفعة في الاعتراض عليه : الذي يظهر أنهما مسألتان : إحداهما : أن الإمام هل له أن يملك ذلك ابتداء ؟ والأصح المنع وهو المذكور هنا ، والثانية أنه إذا أقطعه الإمام ذلك فهل للمقطع أن يتملكه إذا بنى فيه ، والأصح نعم ، وهو المذكور في الجنايات قال : والحاصل أن هذا [ ص: 156 ] الإقطاع بمثابة إقطاع الموات إذا بنى فيه تملك ، وليس للإمام أن يملكه ابتداء ، قال : فإن قلت : يمنع من هذا حوالة الرافعي في الجنايات على المذكور هنا وهو لم يذكر هنا التملك بضم اللام وإنما ذكر التمليك قلت : قد ذكر هنا جواز الإقطاع ، ومن لازمه جواز التملك وقد صرح بهذا اللازم في الجنايات ، وأيضا فلم يقل في الجنايات أنه يملكه بل يتملكه ، ومعناه أنه يتملكه بالإحياء للمسلمين ، قال : على أن الصواب المذكور هنا ، وفيما نقله هناك عن الأكثرين نظر ، أما قوله : إنهم جوزوا فيه البناء فلا يتأتى فيه إلا على تجويز بناء دكة في الشارع إذا لم يضر وهو وجه ، والأصح كما قاله في باب الصلح المنع ، وإن لم يضر ، وأما قوله : إنهم جوزوا تملكه فلا يتأتى إلا على ما حكاه هنا عن الرقم وهو وجه غريب اهـ .

            قلت : حط محط كلام الخادم على إبقاء الاعتراض على الرافعي ، والحكم عليه بالسهو فيما ذكره في الجنايات ، وهو معذور في ذلك ، فإنه حاول الجمع بينهما بالطريق التي ذكرها فوجدها لا تتمشى على الراجح فرجع إلى موافقة المعترضين ، وأقول : لا بأس بتأويل كلام الرافعي على وجه يمنع نسبة الذهول والسهو إليه ، وعبارته في الجنايات وإن حفر لمصلحة عامة ففيه الوجهان أو القولان ، والخلاف راجع إلى ما تقدم في إحياء الموات أن إقطاع الإمام هل له مدخل في الشوارع ، وبينا أن الأكثرين قالوا : نعم وجوزوا للمقطع أن يبني فيه ويتملكه انتهى .

            فمحمل الإيراد هنا إجراء الكلام على أن قوله : وجوزوا معطوف على قالوا فيكون منسوبا للأكثرين ، وعلى أن قوله : ويتملكه الضمير فيه راجع إلى الشارع ، كما هو راجع إليه في قوله أن يبني فيه ، ويندفع الأول بأن يجعل قوله : وجوزوا مستأنفا لا معطوفا على خبر أن فيكون إشارة إلى الوجه المذكور في الصلح أنه يجوز البناء في الطريق وهو وجه مشهور لا غريب ، وإن لم يكن هو المصحح ، والقصد بسياق ذلك هنا الإشارة إلى بناء الخلاف في مسألة حفر البئر على هذا الخلاف المذكور في إحياء الموات في إقطاع الإمام للشارع ، وعلى الخلاف المذكور في جواز البناء في الشارع ، ويوضح ما قلناه من الاستئناف وعدم العطف أن مسألة البناء ليست مذكورة في إحياء الموات وإنما هي مذكورة في باب الصلح ، فكيف يظن بالرافعي أنه يعزو إلى باب مسألتين وليس فيه إلا إحداهما ، فتعين أن الذي عزاه إلى إحياء الموات إنما هو مسألة إقطاع الإمام فقط وهي التي حكى فيها هناك عن الأكثرين الجواز ، وتم الكلام عند قوله وبينا أن الأكثرين قالوا : نعم ، ثم استأنف كلاما آخر على طريق التذييل [ ص: 157 ] مرشحا لما ذكره فقال : وجوزوا - أي طائفة من الأصحاب - للمقطع أن يبني فيه فيكون ذلك ترشيحا لجواز حفر البئر في الشارع لمصلحة عامة الذي هو الأظهر ، ولا يلزم من ذلك أن يكون الراجح في مسألة البناء الجواز لما أشرنا إليه من أن القصد بسياق ذلك بناء الخلاف على الخلاف والترشيح ، ولا يلزم من بناء الخلاف في مسألة على الخلاف في أخرى أن يستويا في الترجيح ، وأما اعتراضهم عليه في قوله : ويتملكه بأن الوجه القائل بتملك الشارع المحكي في إحياء الموات غريب منكر لا يبنى عليه ولا يعول ، فضلا عن أن يعزى إلى الأكثرين فإنه يندفع بأيسر شيء ، وذلك أن الاعتراض مبني على أن الضمير في يتملكه عائد إلى الشارع ونحن نقول ليس عائدا إلى الشارع بل إلى البناء المفهوم من قوله : يبني فيه ، فيكون ذلك ترشيحا لجواز حفر البئر ؛ لأنه إذا قالت فرقة بجواز أن يبني في الشارع ما يكون ملكا لبانيه ، فجواز حفر البئر التي لا تملك وتجعل لعموم المسلمين أولى .

            هذا ما تيسر تأويل كلام الرافعي عليه وهو وإن كان فيه بعض تكلف ، فإنه أولى من نسبة الإمام الرافعي إلى السهو والذهول ، ومن النقول في المسألة عودا وانعطافا على ما تقدم قال ابن القاص في تلخيصه : القطائع فرقتان : أحدهما : مضى ، والثاني : إقطاع إرفاق لا يملك مثل المقاعد في الأسواق هو أحق به ، وقال إمام الحرمين في النهاية الذي صار إليه معظم الأصحاب أن الوالي لو أراد أن يقطع المقاعد فله ذلك كما له أن يقطع الموات من محييه ، وقال الغزالي في البسيط : الإمام هل له أن يقطع مقاعد الأسواق ؟ الذي ذهب إليه معظم الأصحاب أن له ذلك كما في الموات ، وذكر في الوسيط نحوه ، وقال الجرجاني في البلغة : وأما الشوارع والرحاب الواسعة فلكل أحد أن يرتفق بالقعود فيها للبيع والشراء بحيث لا يضر بالمجتازين ومتى تركها كان غيره أحق بها ، وإن قام عنها ليعود إليها في غد كان أولى بها ، فإن أقطع الإمام مكانا منها كان المقطع أحق بالارتفاق به من غيره ، وقال القاضي حسين في تعليقه : الإقطاع قسمان ، أحدهما : إقطاع تمليك وهو الموات الذي يتملكه المقطع بإحداث أمر فيه ، والثاني إقطاع إرفاق وهو مثل الرباطات ومقاعد الأسواق فللإمام أن يقطعها من شاء ليجلس فيها للتجارة وغيرها ، إذا كان لا يتضرر المارة به إذ لاجتهاده مدخل في هذه المواضع بدليل أنه يمنع عنه من يجلس فيه على وجه يتضرر به الناس ، بخلاف المعادن الظاهرة فإنه لا مدخل لاجتهاد الإمام فيها إذ لا يسوغ له منع أحد عنها بحال .

            ثم الحكم [ ص: 158 ] فيه أن المقطع أحق به ما دام يتردد ويرجع إليه ، فإن أعرض عنه وتركه فللغير أن يجلس فيه ، وإن اشتغل عنه بعذر أو غيره فحقه قائم فيه ليس للغير أن يجلس مكانه ، وإذا مرض أو غاب إن كانت المدة قصيرة لم يكن للغير أن يجلس مكانه ، وإن طالت المدة فللغير الجلوس مكانه ولا يملكه المقطع بحال إذ ليس فيه أثر عمارة ولا عين مال بخلاف الموات والمعادن الباطنة على أحد القولين انتهى .

            فهذه عبارات مشاهير أئمة الأصحاب ليس فيها تعرض لتشبيهه بالمتحجر حتى يتوهم أن يأتي في المتعدى عليه على ما يأتي في المتعدي على المتحجر والله أعلم ، قال مؤلفه - رضي الله عنه - : ألفته في ذي القعدة سنة خمس وتسعين وثمانمائة .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية