الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

حقوق الإنسان (محور مقاصد الشريعة)

نخبة من الباحثين

المبحث الأول: تطور مفهوم الحسبة في الإسلام

للحسبة في الإسلام مفهوم واسع لا يقتصر على تلك الولاية الدينية العامة التي يسند أمرها الإمام إلى بعض الموظفين، وإنما يتعدى ذلك إلى تلك المؤسسات المدنية التي تقوم برعاية حقوق الإنسان في المجتمع الإسلامي. وتستند هـذه السعة في مفهوم الحسبة إلى المعنى اللغوي للحسبة، والمعنى الاصطلاحي لها، وتأصيلها الشرعي.

وفيما يلي بيان ذلك.

أولا: المعنى اللغوي للحسبة

الحسبة في اللغة: (بكسر الحاء وتسكين السين) اسم من الاحتساب كالعدة من الاعتداد. والاحتساب مأخوذ من الحسب، وهو على عدة معان [1] :

فالمعنى الأول: العد والحساب، فتقول:حسبت الشيء أحسبه حسابا وحسبانا:إذا عددته. ومنه

قوله تعالى: ( والشمس والقمر [ ص: 128 ] حسبانا ) (الأنعام: 96)

وقال تعالى: ( ولتعلموا عدد السنين والحساب ) (الإسراء: 12) .

ويندرج تحت هـذا المعنى احتساب الإنسان الأجر عند الله تعالى؛ إذا عده ضمن ما يدخر عنده تعالى. والاحتساب بهذا المعنى: إما أن يكون في الأعمال الصالحة، وإما أن يكون في الأعمال المكروهة التي تنزل بالإنسان. ففي الأعمال الصالحة، يكون بالقيام بأعمال البر على الوجه المرسوم فيها طلبا للثواب المرجو. وورد فيها قوله صلى الله عليه وسلم : ( من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ) [2] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( من اتبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا، وكان معه حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين... ) [3] .. وأما في الأعمال المكروهة، فيكون بالمبادرة إلى طلب الأجر وتحصيله بالتسليم والصبر. وورد فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث برسالة لابنته التي توفي ولدها: ( إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب ) [4] . [ ص: 129 ]

والمحتسب يدخر الأجر عند الله تعالى على كل ما يقوم به من عمل، وما يلاقيه من نصب وتعب.

وأما المعنى الثاني للحسب فهو الكفاية، فيقال: احتسب بكذا: اكتفى به.

ومنه قوله تعالى: ( وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) (آل عمران: 173) ، وقوله تعالى: ( وكفى بالله حسيبا ) (النساء:6) .. والمحتسب يعتمد في كل أعماله على الله تعالى وحده لا شريك له.

وأما المعنى الثالث للحسب فهو الإنكار، فيقال احتسب عليه: أي أنكر عليه. وتسمية الإنكار بالاحتساب من قبيل تسمية المسبب بالسبب؛ لأن الإنكار على صاحب المنكر سبب للأمر بإزالته، وهو الاحتساب.

وأما المعنى الرابع للحسب فهو التدبير، فيقال: فلان حسن الحسبة في الأمر: أي حسن التدبير له والنظر فيه وفق القوانين والأنظمة.. والمحتسب يقوم بتدبير خاص، وهو تدبير تطبيق الشرع الإسلامي. وهو أحسن وجوه التدبير.

وأما المعنى الخامس للحسب فهو الاختبار، فيقال: النساء يحسبن ما عند الرجال، أي يختبرن ما عندهم من تصرفات.. والمحتسب ينظر في تصرفات الناس الظاهرة ويحكم عليها، ويقدم على تغيير المنكر منها بعد التحري والنظر في المآلات. [ ص: 130 ]

فالحسبة في معناها اللغوي لا تقتصر على مجرد الإنكار على "الغير" دون النظر إلى النتائج والمآلات، وإنما تتضمن عدة عناصر جوهرية

وهي: المبادرة الذاتية إلى تغيير المنكر رجاء طلب الأجر والثواب من الله تعالى، والاختبار والتحري والنظر في المآلات والنتائج، ومراعاة السياسة الحكيمة في تغيير المنكر، واعتماد المحتسب على الله تعالى ليكون خير عون له على تخطي الصعاب والعراقيل التي تعترضه. هـذا بالإضافة إلى إنكار المنكر، الذي يعد عنصرا أساسيا في الحسبة .

ثانيا: المعنى الاصطلاحي للحسبة

الحسبة في اصطلاح الفقهاء تطلق على عدة معان

المعنى الأول: عرفها جمهور الفقهاء - باعتبارها وظيفة دينية يسندها الإمام للمحتسب- بأنها: «أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله» [5] .. فالمعروف الذي يأمر به المحتسب المعين هـو ما أمر به الشرع الإسلامي، والمنكر الذي ينهي عنه المحتسب هـو ما ينهي عنه الشرع الإسلامي. وتقتصر وظيفة المحتسب على ما يظهر من الناس من منكرات من غير تجسس عليهم، وذلك بأن تكون مكشوفة للمحتسب: إما بالرؤية، أو السماع، أو النقل [ ص: 131 ] الموثوق، الذي يقوم مقامها، كما قال ابن تيمية : «إذا أظهر الرجل [6] . المنكرات وجب الإنكار عليه»

وأما المعنى الثاني للحسبة ، فقد عرفها كل من ابن بسام وابن الإخوة - باعتبارها وظيفة دينية- بالتعريف السابق مع إضافة عبارة: «وإصلاح بين الناس» فقال ابن الإخوة في تعريفها: «أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله، وإصلاح بين الناس» [7] ، وأيدا ذلك بقول الله تعالى: ( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ) (النساء:114) ، وقوله تعالى: ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ) (الحجرات:9) ، وأرى أنه لا داعي لتلك الإضافة؛ لأن الإصلاح داخل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال ابن الإخوة : «إن الإصلاح نهي عن البغي والفساد إلى طاعة الله» [8] .

وأما المعنى الثالث للحسبة، فهو ما عرفها به أبو حامد الغزالي ، وهي: «شاملة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» [9] ، وقريب من [ ص: 132 ] هذا ما ذكره السنامي : «الحسبة في الشريعة عام تتناول كل مشروع يفعل لله تعالى، كالآذان والإقامة وأداء الشهادة مع كثرة تعدادها. ولهذا قيل: القضاء باب من أبواب الحسبة، وقيل القضاء جزء من أجزاء الاحتساب» [10] ، وما ذكره الأصفهاني : «فعل ما يحتسب به عند الله تعالى» [11] .

والأولى بالاعتبار المعنى الثالث للحسبة، فهي في الشريعة الإسلامية ذات معنى واسع لا تقتصر على تغيير المنكر الظاهر، وإنما تشمل كل ما يفعل، ويراد به ابتغاء وجه الله تعالى، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدقة، والأذان، والإقامة، وأداء الشهادة، والجهاد في سبيل الله تعالى، وغير ذلك.

ويؤيد ذلك: قوله تعالى: ( والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار ) (الرعد:22) ، وقوله سبحانه وتعالى: ( ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين ) (البقرة:265) ، وقوله: ( وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ) (البقرة:272) .. [ ص: 133 ]

فهذه الآيات تشير إلى أنه لابد أن تكون أعمال المسلمين ابتغاء وجه الله تعالى أو حسبة له. ويؤيد ذلك أيضا قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة: صانعه يحتسب في صنعه الخير، والرامي به، والممد به.... ) [12] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن السقط ليجر أمه بسرره إلى الجنة إذا احتسبته ) [13] ( وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله! إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا غير مدبر، أيكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم ) [14] ، ( وقوله صلى الله عليه وسلم لنسوة من الأنصار: لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد، فتحتسبه إلا دخلت الجنة». فقالت امرأة منهن: أو اثنان يا رسول الله؟ قال: أو اثنان ) [15] ، وقد بوب البخاري في صحيحه بابا بعنوان: «ما جاء في أن الأعمال بالنية والحسبة، ولكل امرئ ما نوى» [16] ، ويدخل فيه الإيمان والوضوء، والصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، والأحكام. وذكر من الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أنفق الرجل على أهله [ ص: 134 ] يحتسبها فهو له صدقة ) [17] ، ( وقوله: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي [18] بها وجه الله إلا أجرت عليها ) .. هـذه الأحاديث وغيرها تدل دلالة واضحة على عموم الحسبة وشمولها، وعدم اقتصارها على نوع معين من الأحكام، وإنما تشمل جميع الأحكام.

ويمكن تعريف الحسبة بناء على ذلك بما يلي: «فعالية المجتمع المسلم في القيام بأعمال البر والخير، وتغيير المنكر وفق السياسة الشرعية، حماية لمقاصد الشريعة الإسلامية».. فالأفراد في المجتمع الإسلامي يتصفون بالإيجابية والفعالية والمبادرة إلى القيام بالأعمال ابتغاء وجه الله، وطلبا للأجر والثواب في الآخرة. ولا يتوقف قيامهم بها على تحصيل الأجرة الدنيوية. فهم يحتسبون عملهم عند الله تعالى سواء حصلوا على أجر دنيوي، بأن كانوا معينين من قبل رئيس الدولة، أم لم يحصلوا، بأن كانوا متطوعين. وهم يراعون في قيامهم بأعمال الحسبة الحدود الشرعية المرسومة، والسياسة الشرعية الحكيمة، فيوازنون بين المصالح والمفاسد التي تترتب على القيام بالأعمال، ولا يقدمون عليها إلا بعد حساب دقيق للنتائج والمآلات. وهم يقصدون من القيام بتلك الأعمال حماية مقاصد الشريعة [ ص: 135 ] الإسلامية من ضروريات وحاجيات وتحسينيات ، فيعملون على حماية الدين والنفس والعقل والعرض والمال وغير ذلك.

ولا تقتصر هـذه الفعالية على الفرد، وإنما تتعدى إلى الجماعة والدولة، فإذا كان الأمر بالمعروف واجب على الفرد المسلم، فإنه واجب على الجماعة، حيث يتعاون عليه الأفراد في الجماعات ويتشاورون فيه

لقوله تعالى: ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هـم المفلحون ) (آل عمران:104) ، وقال تعالى: ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) (المائدة:2) .

كذلك فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هـو واجب الدولة بكل مؤسساتها وأجهزتها،

قال تعالى: ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ) (الحج:41) ، وقد أشار ابن تيمية [19] إلى هـذا، حيث قال: «وإذا كان جماع الدين وجميع الولايات هـو أمر ونهي، فالأمر الذي بعث الله به رسوله هـو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا نعت النبي [ ص: 136 ] والمؤمنين،

كما قال تعالى: ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) (التوبة:71) » .

وهذا واجب على كل مسلم قادر، وهو فرض على الكفاية ، ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره. والقدرة هـو السلطان والولاية، فذوو السلطان أقدر من غيرهم، وعليهم من الوجوب

ما ليس على غيرهم، فإن مناط الوجوب هـو القدرة، فيجب على كل إنسان بحسب قدرته،

قال تعالى: ( فاتقوا الله ما استطعتم ) (التغابن:16) ..

وجميع الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء في ذلك ولاية الحرب الكبرى مثل نيابة السلطة، والصغرى مثل ولاية الشرطة، وولاية الحكم، أو ولاية المال، وهي ولاية الدواوين المالية وولاية الحسبة.

ثم قال: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله من الدين..».. وبين سبحانه أن هـذه الأمة خير الأمم للناس، فهم أنفعهم لهم وأعظمهم إحسانا إليهم، لأنهم كملوا أمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر من جهة الصفة والقدر، حيث أمروا بكل معروف ونهوا عن المنكر لكل أحد، وأقاموا ذلك بالجهاد في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم وهذا كمال للخلق. وسائر الأمم [ ص: 137 ] لم يأمروا كل أحد بكل معروف، ولا نهوا كل أحد عن كل منكر، ولا جاهدوا على ذلك، بل منهم من لم يجاهد. والذين جاهدوا، كبني إسرائيل، فعامة جهادهم كان لدفع عدوهم عن أرضهم كما يقاتل الصائل الظالم لا لدعوة المجاهدين وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر،

كما قال موسى لقومه: ( يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ) (المائدة:21-24)

أنواع الحسبة

بناء على المفهوم الواسع للحسبة ، يمكن تقسيمها إلى قسمين: رسمية وتطوعية:

فالحسبة الرسمية التي تخضع لسيادة الدولة، كما قال ابن خلدون ، هـي وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هـو فرض على القائم بأمور المسلمين (الإمام) ، حيث يعين لذلك من يراه أهلا لها يسمى «المحتسب»، وهو يقوم باتخاذ الأعوان [ ص: 138 ] والمساعدين للقيام بتلك المهمة [20] وقال ابن القيم : «جرت العادة بإفراد هـذا النوع بولاية خاصة، كما أفردت ولاية المظالم بولاية خاصة، والمتولي لها يسمى والي المظالم... والمتولي لفصل الخصومات وإثبات الحقوق والحكم في الأنكحة والطلاق والنفقات وصحة العقود وبطلانها المخصوص باسم الحاكم والقاضي» [21] ، وهي فرض عين على كل من الإمام والمحتسب.

وتختص ولاية الحسبة بالحكم بين الناس في القضايا التي لا تحتاج إلى دعوى وبينات، فيبحث المحتسب عن المنكرات الظاهرة، ويعزر ويؤدب على قدرها، ويحمل الناس على المصالح العامة في المدينة، مثل: إقامة الصلوات، والمنع من المضايقة في الطرقات، ومنع الحمالين وأهل السفن من الإكثار في الحمل، والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها، وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة، والضرب على أيدي المعلمين في المكاتب (المدارس) وغيرها في الإبلاغ عن ضربهم للصبيان المتعلمين، ومنع البائعين من الغش والتدليس والتطفيف في المكاييل والموازين، ويتفقد أحوال الصناع الذين يصنعون الأطعمة والملابس والآلات، فيمنعهم من صناعة المحرم على [ ص: 139 ] الإطلاق، كآلات الملاهي، وثياب الحرير للرجال، ويمنع من اتخاذ أنواع المنكرات، ويمنع صاحب كل صناعة من الغش في صناعته، ويمنع من إفساد نقود الناس وتغييرها... وغيرها مما يدخل في الإنكار على أرباب الغش في المطاعم والمشارب والملابس. فإن هـؤلاء يفسدون مصالح الأمة. والضرر بهم عام لا يمكن الاحتراز منه. فعليه أن لا يهمل أمرهم، وأن ينكل بهم أمثالهم [22] .

ولا تقتصر اختصاصات المحتسب على الاحتساب على أصحاب المهن الحرة، وإنما تتعدى ذلك إلى الولاة والقضاة، كما ذكر ابن بسام وغيره من المصنفين في الحسبة [23] . ولهذا يشترط في المحتسب أن يكون عدلا ذا رأي وصرامة وهيبة وعلم بالمنكرات وغير ذلك. كما ذكر الماوردي وغيره: «الحسبة موضوعة للرهبة، فلا يكون خروج المحتسب إليها بالسلاطة والغلظة تجوزا فيها ولا خرقا» [24] .

وأما الحسبة التطوعية أو غير الرسمية «الأهلية»، فهي التي طلبتها الشريعة الإسلامية من المكلفين، لأن المسلم مكلف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهي فرض كفاية . ويطلق الفقهاء على من يقوم [ ص: 140 ] بهذه الحسبة : «المتطوع» [25] فهو يقوم بها من دون تعيين، ولا تولية من ولي الأمر، وإنما يستند في القيام بها على الواجب الديني الملقى على عاتقه، وهو واجب عام يرتبط بالوسع، ويؤديه كل مسلم حسب طاقته وقدرته، كما قال ابن القيم [26] : «وهذا واجب على كل مسلم قادر، وهو فرض كفاية ... فإن مناط الوجوب هـو القدرة، فيجب على القادر ما لا يجب على العاجز»

قال تعالى: ( فاتقوا الله ما استطعتم ) (التغابن:16) ، ( وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم ) [27] .

وتختلف صلاحيات المتطوع عن صلاحيات المحتسب المعين؛ لأن المعين يقوم مقام ولي الأمر في هـذا العمل، فيجوز له أن يعزر ويعاقب في المنكرات الظاهرة، بخلاف المتطوع، فلا يجوز له أن يعزر ويعاقب في المنكرات الظاهرة، وإنما له النصيحة والوعظ والحوار والمجادلة وغير ذلك من الوسائل السليمة.

وإذا كان للمحتسب المعين أن يتخذ الأعوان والمساعدين للقيام بأعمال الحسبة ، فإن للمتطوعين وآحاد الناس أن ينظموا أنفسهم [ ص: 141 ] ويكونوا الجمعيات والمؤسسات الأهلية للقيام بأعمال الحسبة التي تدخل في صلاحياتهم،

ويؤيد ذلك قوله تعالى: ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هـم المفلحون ) (آل عمران:104) ، وقوله تعالى: ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) (المائدة:2) .

ثالثا: التأصيل الشرعي للحسبة

إذا كانت الحسبة تمثل الرقابة العامة على المجتمع، فإن قاعدتها وأصلها هـو: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، كما قال ابن القيم : وهي صفة وصف الله بها هـذه الأمة، وفضلها من أجل ذلك على سائر الأمم [28] . وتعد أدلة مشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أدلة الحسبة. وفيما يلي بيان لذلك:

1- قوله تعالى: ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هـم المفلحون ) (آل عمران:104) .

2- وقوله تعالى: ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) (آل عمران:110) . [ ص: 142 ]

3- وقوله تعالى: ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) (التوبة:71) .

4- وقوله تعالى، في وصية لقمان لابنه: ( يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ) (لقمان:17) .

5- ( وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) [29] .

6- ( وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم ) [30] .

7- ( وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل، فيقول: يا هـذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وجليسه وشريبه [ ص: 143 ] وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله على قلوب بعضهم»، ثم قال: ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ) (المائدة:78-79) ثم قال: كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو تقصرنه على الحق قصرا ) [31] .

8- ( وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يافلان مالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه ) [32] .

9- ( وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والجلوس بالطرقات» قالوا: «يا رسول الله مالنا من مجالسنا [ ص: 144 ] بد، نتحدث فيها. فقال: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه»، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: «غض البصر، [33] . وكف الأذى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر )

10- ( وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: «أيها الناس إنكم تقرأون هـذه الآية: ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) (المائدة:105) ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه ) [34] .

11- ( وعن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة»، قلنا: لمن؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم ) [35] .

12- وقد أجمع العلماء على مشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ونقل الإجماع كل من ابن عبد البر والجويني وابن حزم والقرطبي ، حيث قال ابن حزم : «لا خلاف بين الأمة الإسلامية على وجوبه» [36] . [ ص: 145 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية