الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

حقوق الإنسان (محور مقاصد الشريعة)

نخبة من الباحثين

تزكية الإنسان ثانيا:

إذا كانت إنسانية الإنسان، بما تعنيه من خصائص وامتيازات لهذا الكائن، هـي أول ما يجب أن نحافظ عليه ونصونه، وننطلق منه في كل ما يتعلق بالإنسان، فإن تزكية الإنسان يجب أن تكون الهدف الثاني والمحدد الثاني لحركة حقوق الإنسان، ولكل نشاط يستهدف الإنسان.

فالتزكية هـي المقصد الأسمى الذي يريده الله لعباده في هـذه الدنيا، وهي منتهى ما بعث الله لأجله رسله، وخلاصة ما ضمنه شرائعه.

والتزكية -كما هـو متفق عليه عند اللغويين والمفسرين- تتضمن معنيين، أو هـي تزكية ذات وجهين هـما التطهير والتنمية. فالتزكية في الأمور المعنوية هـي التطهير من العيوب والأدران والآفات (أي من [ ص: 53 ] الصفات السلبية) ، وتنمية المحاسن والفضائل وعناصر الخير (أي الصفات الإيجابية) .

قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور : «التزكية تطهير النفس، مشتقة من الزكاة وهي النماء؛ وذلك لأن في أصل خلقة النفوس كمالات وطهارات، تعترضها أرجاس ناشئة عن ضلال أو تضليل، فتهذيب النفوس وتقويمها يزيدها من ذلك الخير المودع فيها،

قال تعالى: ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون ) (التين:4-6) ..

وفي الحديث: ( بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) ، ففي الإرشاد إلى الإصلاح والكمال نماء لما أودع الله في النفوس من الخير في الفطرة» [1] .

ويقول الشيخ سعيد حوى رحمة الله عليه: «فزكاة النفس تطهيرها من أمراض وآفات، وتحققها بمقامات، وتخلقها بأسماء وصفات، فالتزكية في النهاية تطهر وتحقق وتخلق» [2] .

وإذا كان الدين قد اعتنى عناية تامة بالأبدان وصحتها وطهارتها وتغذيتها وتزكيتها، فلا شك أن عنايته العظمى هـي تلك الموجهة إلى [ ص: 54 ] تزكية النفوس وإصلاحها لأنها عنصر تفرد الإنسان ومجال ارتقائه، كما قال الشاعر:

أقبل على النفس واستكمل فضائلها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان

ولقد نص القرآن الكريم في كثير من آياته على كون تزكية الإنسان وترقيته هـي مقصود بعث الرسل عموما، وخاتمهم رسول الإسلام خصوصا،

قال تعالى: ( الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) (الجمعة:2) .

فالآية الكريمة ناطقة صريحة في أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس لتزكيتهم، وإذا كانت تلاوة آيات الكتاب وتعليم معانيه وأحكامه وحكمته هـي نفسها وسائل ومعابر للتزكية، فالنتيجة أن التزكية هـي المعنى الغائي والهدف النهائي للرسل والرسالات في هـذه الحياة الدنيا.

ومما يلفت الانتباه والتأمل في هـذا الموضوع كون المعنى المنصوص عليه في هـذه الآية قد تكرر في القرآن الكريم ثلاث مرات أخرى:

- ففي سورة البقرة على لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم ) (البقرة:129) . [ ص: 55 ]

- وفيها أيضا: ( كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ) (البقرة:151) .

- وفي سورة آل عمران: ( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) (آل عمران:164) .

ولقد جاءت في القرآن الكريم نصوص أخرى تنبه على أن تزكية الإنسان يجب أن تكون هـي الغاية القصوى والمقصد لكل نشاط إنساني، والمعيار الذي يحدد نجاحه وفلاحه،

كقوله عز وجل: ( ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ) (الشمس:7-10) ، وقوله تعالى: ( قد أفلح من تزكى ) (الأعلى:14) .

وإذا كانت الصفات الخيرة الحسنة هـي الأكثر تأصلا وعمقا في كيان الإنسان، فإن اتصاف هـذا الإنسان منذ البداية ببعض النقائص، مع قابليته لاكتساب صفات سيئة وشريرة، وقابلية النقائص الأصلية للنمو والتضخم، هـي كذلك أمور ملموسة ومعيشة، بل ومصرح [ ص: 56 ] بها في نصوص الوحي، فالآية السابقة: ( ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها ) تفيد القابلية للاتصاف بالصفات الصالحة وتنميتها (التقوى) وبالصفات الفاسدة وتنميتها (الفجور) .

وفي عالم النفوس -كما في عالم الأجسام- فإن الله تعالى الذي خلق الداء خلق له ومعه الدواء، فلكل داء دواء، ولكل عيب شفاء،

قال تعالى: ( إن الإنسان خلق هـلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هـم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم والذين يصدقون بيوم الدين والذين هـم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون ) (المعارج:19-28) .

والإنسان قابل، بل ميال، للبغي والطغيان، وشفاء ذلك في أن يعرف ربه ويعرف أنه راجع إليه وواقف للحساب بين يديه:

( إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى ) (العلق:6-8) ، وقوله سبحانه وتعالى: ( فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هـي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ) (النازعات:37-40) . [ ص: 57 ]

ومعلوم في جميع الديانات أن أهم وأبلغ تزكية يحصل عليها الإنسان ويرتقي فيها - بعد الإيمان بالله تعالى- هـي ما شرعه سبحانه من عبادات وقربات، كالذكر والتفكر والصلاة والصوم والحج والزكاة وسائر النفقات.

وإن من أخص خصائص الإنسان أنه كائن متدين أو كائن متعبد، عن طواعية واختيار. فالملائكة تعبد الله بصورة جبلية خالصة، ليس لها فيها اختيار أو رفض، أو تأخير أو تقصير، وبقية الكائنات تخضع لسنن الله تعالى ونواميسه، في حركاتها وسكناتها، وحياتها وموتها، ونموها وتكاثرها، وغير ذلك من شئونها. والإنسان يشترك معها في هـذا الخضوع التلقائي، أو في هـذه العبودية الاضطرارية، ولكنه يتميز بعبودية أخرى يتجاوب معها أو يتنكر لها بإرادته واختياره، وهي عبودية التعبد أو عبودية التدين. فبها يتميز، وبها يتزكى، وبها يحافظ على سموه وسر تفوقه على سائر المخلوقات. ولذلك كانت هـذه الخاصية مقصدا عاما وأساسيا من مقاصد الشريعة. وفي هـذا المعنى يقول الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى: «المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هـواه حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هـو عبد لله اضطرارا» [3] . [ ص: 58 ]

وإذا كانت شرائع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم قد جاءت بحفظ كافة حقوق الإنسان، وعلى يد الأنبياء عرف الناس فكرة الحقوق والواجبات، ومن شرائعهم ومبادئهم وقيمهم التي زرعوها في تاريخ البشرية وثقافاتها، استمدت حركة حقوق الإنسان وجودها ومشروعيتها وأهم مبادئها، فإن هـذه الشرائع والرسالات المنزلة كانت كلها تبتدئ بقضية عبادة الله، باعتبارها الضامن والداعم لأخص خصائص الإنسان التي عليها تنبني مشروعية حقوق الإنسان، فضلا عن كونها مجالا للتسامي والترقي لا يشبهه شيء ولا يدانيه شيء. وهكذا ما من نبي بعثه الله إلا قال لقومه: ( يا قوم اعبدوا الله ) [4] فلذلك صار تدين الإنسان وتعبده لربه الصفة المميزة للإنسان وسلوكه «مما يجوز معه أن نعرف الإنسان بأنه الكائن الحي المتدين. فالهوية الإنسانية تكون في حقيقتها هـوية دينية»، كما يقول الدكتور طه عبد الرحمن [5] .

والعبادة كما هـو معلوم تشمل الإنسان في روحه وعقله ونفسه وعاطفته وبدنه وحواسه وماله ووقته وفكره وعلمه. ومعنى هـذا أن [ ص: 59 ] العبادة تزكي الإنسان بكل جوانبه وأبعاده. غير أن تزكية النفوس خاصة تبقى ذات أولوية واضحة في التعاليم والتكاليف الدينية، إذ النفس هـي مجمع الآفات والنزعات والشهوات: ( إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ) (يوسف:53) .

ومن أمثلة الآفات النفسية التي وجهت العبادات لمعالجتها وتزكية الإنسان منها: آفة شدة التعلق بالمال، والحرص عليه، والشح به. فبسبب ذلك يتعادى الناس ويتخاصمون، ويتصارعون، ويقتتلون، وبسبب ذلك يفرط الإنسان في كثير من قيمه ومبادئه، وتتضخم أنانيته وذاتيته، ويفقد توازنه وطمأنينته، فلذلك جاءت تعاليم الإسلام وتكاليفه غنية بالتوجهات والتدابير الخاصة بمعالجة هـذه الآفة. والنصوص المتعلقة بهذا الموضوع كثيرة متنوعة، وخاصة تلك المتعلقة بالتوجيهات القيمية النظرية، وأقتصر على بعض النصوص الإجرائية العملية الموجهة بشكل صريح إلى تزكية الإنسان من هـذه الناحية.

فمن المعلوم أن من أركان الإسلام الخمسة فريضة الزكاة، ودور هـذه الفريضة في تزكية الإنسان وترقيته واضح معلن من الاسم نفسه (الزكاة) ، فهي زكاة للنفس الإنسانية أولا وأساسا. والآية الكريمة التي أمرت بأخذ الزكاة من ذوي الأموال عللت ذلك بهذه العلة دون [ ص: 60 ] غيرها من علل الزكاة ومقاصدها، قال تعالى: ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) (التوبة:103) .

ولم يقل خذ من أموالهم صدقة تطهر أموالهم وتزكيها لهم، بل تطهرهم وتزكيهم هـم أنفسهم. فالذي يزكي ماله، يزكي في الحقيقة نفسه ويطهرها، قال العلامة الكاساني في بدائعه: « الزكاة تطهر نفس المؤدي، وتزكي أخلاقه بتخلق الجود والكرم وترك الشح والضن، إذ الأنفس مجبولة على الضن بالمال، فتتعود السماحة وترتاض لأداء الأمانة وإيصال الحقوق إلى مستحقيها،

وقد تضمن ذلك كله قوله تعالى: ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) (التوبة:103) .

وإن الله تعالى قد أنعم على الأغنياء وفضلهم بصنوف النعمة والأموال الفاضلة عن الحوائج الأصلية وخصهم بها، فيتنعمون ويستمتعون بلذيذ العيش. وشكر النعمة فرض عقلا وشرعا، وأداء الزكاة إلى الفقير من باب شكر النعمة» [6] .

ووظيفة التزكية ليست خاصة بالزكاة، بل هـي منصوص عليها وعلى طلبها في كافة أوجه الإنفاق الشرعي،

قال تعالى: ( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل [ ص: 61 ] واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى وما يغني عنه ماله إذا تردى إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى ) (الليل:5-18)، وقال سبحانه: ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) (آل عمران:92) .

وليست العبادات وحدها هـي مجال التزكية والترقية للإنسان وللنفس الإنسانية، بل إن كل ما في الإسلام موجه لتحقيق هـذا الهدف وهذا المقصد. ومن ذلك مجال المعاملات والعلاقات الاجتماعية. ومن يلقي نظرة ولو سريعة على كتب السنة النبوية فسيجد أبواب الأخلاق والآداب والفضائل والعلاقات الإنسانية، غزيرة شاملة تتناول كل جوانب النفس البشرية وكل ما تحتاجه من فضائل ومكارم وما يعرض لها من آفات ورذائل.

وقد يبدو لبعض الناس أن ما عرفته البشرية اليوم من ارتقاء قانوني ومن تقدم حقوقي، وما وصلت إليه في كثير من الأقطار من تحقيق سيادة القانون وإقامة دولة الحق والقانون، يغني عن التعاليم الدينية ويحقق مقصودها بشكل أكثر نجاعة وفاعلية.

ولاشك عندي أن نوعا من الترقي القانوني الحقوقي قد تحقق، وأنه جدير بالتقدير والاعتبار، ولكن الارتقاء القانوني والضبط التشريعي [ ص: 62 ] لبعض المبادئ والحقوق، لا يمثل إلا تقدما ظاهريا إلزاميا، يظل محكوما بموازين القوة وحضور الرقابة والردع، دون أن يحدث تزكية أو أثرا حقيقيا في النفس وفي الضمير. وما أكثر ما نرى دعاة حقوق الإنسان، وحماة حقوق الإنسان، ودركيي حقوق الإنسان، يتنكرون لمبادئهم وشعاراتهم ويقلبون لها ظهر المجن، ويكشفون عن زيفهم وسطحية ثقافتهم الحقوقية، ويتحولون إلى وحوش ومناصرين للوحشية التي لا تعرف للإنسان حقا ولا كرامة، ولا ترقب فيه إلا ولا ذمة. فلذلك لا بد من التزكية الحقيقية الذاتية، ثم بعد ذلك، أو بجانب ذلك، تأتي المواثيق والحوافز القانونية والتدابير الإلزامية دعما للتزكية، أو حيث لم تنفع التزكية، وحيث لم تكن كافية، حسب الحالات.

وفي ظل تدهور إنسانية الإنسان، وفي غيبة تزكية الإنسان، هـا نحن نرى الجهود الضخمة الهائلة والمتواصلة التي بذلت لأجل حقوق الإنسان، وتكاثرت وتراكمت لأجلها قناطير مقنطرة من البيانات والإعلانات والمواثيق والاتفاقات والدساتير والقوانين، تداس كلما احتيج لذلك، أو تعاد صياغتها أو تفسيرها كلما احتيج لذلك.

لقد كانت فكرة العدالة والحق في العدالة أسمى وأكثر ما شغل حركة حقوق الإنسان، وقد احتل هـذا الحق حيزا كبيرا في الأدبيات والمواثيق والقوانين الحقوقية، ومع ذلك كله مازال حق العدالة [ ص: 63 ] وقوانين العدالة ملكا لذوي القوة والنفوذ والغلبة، يطبقونه متى شاءوا، ويعطلونه متى شاءوا، ويفسرونه ويكيفونه كيف شاءوا.

ولعل أهم تطور حصل في هـذه المسألة هـو أن الظلم أصبح اليوم قانونيا مؤسسيا أكثر من ذي قبل.. قديما كان الظلم يقع بمقتضى الغلبة والبطش الصريح، بدون قانون وبدون مؤسسات، بل بسبب غيبة القانون وغيبة المؤسسات، أما الظلم اليوم فيتم باسم العدالة وبواسطة مؤسسات العدالة ومن خلال القوانين المستصدرة لأجل العدالة!

أي ظلم أفدح وأعظم من كون خمس دول (هي الدول دائمة العضوية بمجلس الأمن) قد أعطت لنفسها حق التحكم في البشرية كلها، تتحكم في السلم والحرب والسياسة والاقتصاد، وتعاقب وتكافئ، وتعطي الشرعية لمن تشاء وتنزعها عمن تشاء.. وفق معايير ومصالح واعتبارات هـي تضعها وهي تغيرها! أين حق العدالة؟ ليس للأفراد، بل للشعوب والدول!! أين المساواة.؟

حينما نقرأ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، نجده يطالعنا في الفقرة الأولى من ديباجته بكون «الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية، هـو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم». [ ص: 64 ]

ثم نجد في مادته الأولى: «يولد جميع الناس أحرارا متساوين في الكرامة والحقوق».. فهل توجد في عالم اليوم مساواة في الكرامة والحقوق لعموم البشر؟ هـل يقيمون اعتبارا للمواد القانونية المذكورة؟

القارة الإفريقية بكاملها ليس لها عضوية دائمة بمجلس الأمن، وكذلك قارة أمريكا اللاتينية، لأنهما قارتان فقيرتان. والعالم الإسلامي الذي تمثل دوله ثلث الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، ليس له بمجموعه عضوية دائمة في مجلس الأمن؟

وهكذا، فالفقراء في العالم، والمسلمون في العالم (وهذه هـي الأغلبية العظمى فيه) ليس لهم حق في المساواة، وليس لهم حق التقرير، ولا حق التأثير في شئون هـذا العالم ولا في شئونهم هـم أنفسهم.. فكيف يمكن التحدث عن الديمقراطية وعن الحقوق المتساوية التي هـي أساس العدالة، والعدالة هـي المتطلب المركزي لحركة حقوق الإنسان؟!

قد يقال: إن المقصود بالعدالة وبالحقوق المتساوية حقوق الأفراد، مع بعضهم ومع حكوماتهم ومحاكمهم! وأقول: وهذه أدهى وأمر، كيف يتم التركيز على حقوق الأفراد - على علاتها وآفاتها- ويتم إسقاط حقوق الأمم والشعوب؟ وإسقاط حق شعب واحد يعني إسقاط حقوق عشرات الملايين، فكيف بشعوب ودول تعد بالعشرات؟ [ ص: 65 ]

على أن الأمر لا يتعلق فحسب بحق المساواة، الذي هـو أبسط مظاهر العدالة، بل إن عدم المساواة في هـذه الحالة يعني ما لا يحصى من التوابع والتداعيات، ومن المظالم والاختلالات، يكون ضحيتها ملايين البشر، في حقوقهم المادية والمعنوية، بما في ذلك حقهم في الحياة.

إن الحركة الحقوقية بحاجة ماسة إلى أن تكون حركة أخلاقية وليس مجرد حركة قانونية ثقافية وفكرية. فبدون أخلاق وبدون تخليق، ستظل حركة حقوق الإنسان دائرة حول المظاهر دون أن تصل إلى المخابر، وستظل تشتغل بالوسائل من غير تقدم في تحقيق المقاصد. وأكثر من ذلك كله، ستظل عرضة للتكييف والتوجيه والتعطيل، بحسب ما يريده أصحاب الغلبة والنفوذ وذوو النزوات والشهوات.

وكما يقول د.طه عبد الرحمن : «فإن ضرورة الخلق للإنسان كضرورة الخلق سواء بسواء، فلا إنسانية بدن أخلاقية» [7] .. ولذلك كان جوهر رسالة الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، هـو غرس الأخلاق، وتنمية الأخلاق، وصيانة الأخلاق، كما قال خاتمهم ومتمم مقاصدهم، نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم : ( بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) [8] . [ ص: 66 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية