الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

حقوق الإنسان (محور مقاصد الشريعة)

نخبة من الباحثين

تقسيم المقاصد بحسب المصالح

تبين مما سبق أن مقاصد الشريعة هـي تحقيق مصالح الناس، ولكن المصالح ليست على درجة واحدة من حيث الأهمية والخطورة وحاجة الناس إليها، وإنما هـي على مستويات مختلفة، ودرجات متعددة، فبعض المصالح ضروري وجوهري يتعلق بوجود الإنسان ومقومات حياته، وبعضها يأتي في الدرجة الثانية، ليكون وسيلة مكملة للمصالح الضرورية السابقة، وتساعد الإنسان على الاستفادة الحسنة من جوانب الحياة المختلفة في السلوك والمعاملات وتنظيم العلاقات، وبعض المصالح لا تتوقف عليها الحياة، ولا ترتبط بحاجيات الإنسان، وإنما تتطلبها مكارم الأخلاق والذوق الصحيح، والعقل السليم، لتأمين الرفاهية للناس، وتحقيق الكماليات لهم [1] .

ومن هـنا حصر العلماء مصالح الناس، وقسموها بحسب أهميتها وخطورتها وأثرها في الحياة وحاجة الناس إليها إلى ثلاثة أقسام، وأن مقاصد الشريعة جاءت لتحقيق هـذه المصالح بأقسامها الثلاثة، وهي:

1 - المصالح الضرورية

وهي التي تقوم عليها حياة الناس الدينية والدنيوية، ويتوقف [ ص: 79 ] عليها وجودهم في الدنيا ونجاتهم في الآخرة، وإذا فقدت هـذه المصالح الضرورية اختل نظام الحياة، وفسدت مصالح الناس، وعمت فيهم الفوضى، وتعرض وجودهم للخطر والدمار والضياع والانهيار، وضاع النعيم في الآخرة، وحل العقاب.

وهذه المصالح الضرورية هـي الأساس لحقوق الإنسان، وهي السند لها، والركيزة التي تعتمد عليها، والكوكب الذي تشع منه، سواء كانت حقوقا عامة تنادي بها جميع الأمم والشعوب والدساتير والمواثيق العالمية، والقوانين والاتفاقات الدولية، وتسمى الحقوق الأساسية للإنسان، ومنها حق الحياة، وحق التدين، وحق الحرية، وحق المساواة، أم كانت حقوقا فرعية وخاصة، وكلا النوعين هـي واجبات على الآخرين يجب عليهم الالتزام بها، وحفظها لأصحابها، لأن كل حق يقابله واجب، والحق هـو مصلحة مقررة شرعا أو قانونا، فالحق منفعة تثبت لإنسان على آخر، فالحق مصلحة قررها الشرع أو القانون، لينتفع بها صاحبها، ويتمتع بمزاياها، وبالتالي تكون واجبا والتزاما على آخر يؤديه، لتحقق الغاية منها [2] .

- حصر المصالح الضرورية

وتنحصر المصالح الضرورية للناس في نظر الإسلام في خمسة أشياء، [ ص: 80 ] وهي الدين، والنفس، والعقل، والنسل أو العرض أو النسب، والمال.

وجاءت الشريعة الغراء لحفظ هـذه المصالح الضرورية، وذلك بتشريع الأحكام التي تحفظ الدين، وتحفظ النفس، وتحفظ العقل، وتحفظ النسل أو العرض أو النسب، وتحفظ المال [3] .

واتفقت الشرائع السماوية على مراعاة هـذه الحقوق الأساسية والمصالح الضرورية للناس، فنادت بها، وحرصت عليها، وعملت على حمايتها وحفظها.

قال حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى: «ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هـذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هـذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة» ثم قال: «وهذ الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات، فهي أقوى المراتب في المصالح» [4] .

ثم قال الغزالي : «وتحريم تفويت هـذه الأمور الخمسة، والزجر عنها، يستحيل ألا تشتمل عليه ملة من الملل، وشريعة من الشرائع التي [ ص: 81 ] أريد بها إصلاح الخلق، ولذا لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر، والقتل، والزنى، والسرقة، وشرب المسكر» [5] .

2- المصالح الحاجية

وهي الأمور التي يحتاجها الناس لتأمين شئون الحياة بيسر وسهولة، وتدفع عنهم المشقة، وتخفف عنهم التكاليف، وتساعدهم على تحمل أعباء الحياة، وإذا فقدت هـذه الأمور لا يختل نظام الحياة، ولا يتهدد وجود الناس، ولا ينتابهم الخطر والدمار والفوضى، ولكن يلحقهم الحرج والضيق والمشقة، ولذلك تأتي الأحكام التي تحقق هـذه المصالح الحاجية للناس، لترفع عنهم العسر، وتيسر لهم سبل التعامل، وتساعدهم على صيانة مصالحهم الضرورية وتأديتها، والحفاظ عليها عن طريق الأحكام الحاجية، كالرخص في العبادات، وأحكام المعاملات [6] ، كما سيأتي بيانها.

3- المصالح التحسينية

وهي الأمور التي تتطلبها المروءة والآداب والذوق العام، ويحتاج إليها الناس لتسيير شئون الحياة على أحسن وجه، وأكمل أسلوب، وأقوم نهج، وإذا فقدت هـذه الأمور فلا تختل شئون الحياة، ولا ينتاب [ ص: 82 ] الناس الحرج والمشقة، ولكن يحسون بالضجر والخجل، وتتقزز نفوسهم، وتستنكر عقولهم، وتأنف فطرتهم من فقدها.

وهذه الأمور التحسينية ترجع إلى ما تقتضيه الأخلاق الفاضلة، والأذواق الرفيعة، وتكمل المصالح الضرورية، والمصالح الحاجية على أرفع مستوى وأحسن حال [7] .

التالي السابق


الخدمات العلمية