الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        ثانيا: في مجال التجسيد:

        يتضح تجسيد أعلام المسلمين للاستفادة من الآخر، من خلال قيام تلك الحضارة العظيمة، التي وصلت بالناس إلى قمة الفاعلية وجلبت لهم السعادة خلال فترة وجيزة من الزمن، إذ لا يمكن أن تدخل كل تلك الأفواج في الإسلام وهي شعوب ذات عراقة حضارية لا تقارن بالعرب، بل وتفوقهم في الأعداد بمئات المرات، وتمتلك من الإمكانات المادية ما لا يملك أقله [ ص: 100 ] العرب، لا يمكن أن تفعل ذلك إلا إذا كان هذا المولود الجديد يمتلك خصائص جذب كثيرة، ومنها أنه قد استفاد من كل ما هو إيجابي وجميل في المنظومات الحضارية لتلك الأمم، مضيفا إياه إلى المنظومة الحضارية لهذه الأمة.

        ولذلك لم يجد أصحاب الثقافات والحضارات العريقة أي غضاضة في أن يتخلوا عن لغاتهم ويصبحوا عربا، لأن العربية اللسان، لدرجة أن الآلاف منهم أمضوا سنوات طويلة من أعمارهم في العمل من أجل التمكين للثقافة الإسلامية، التي يفترض أنها ثقافة العرب في المقام الأول، ولا سيما بالمنظور القومي، وإحلالها محل الثقافات الفارسية والتركية والهندية والصينية والكردية والأمازيغية والملاوية والسلافية والزنجية والسواحلية وغيرها، حتى أن كثيرا من المسلمين الأعاجم أصبحوا عربا أكثر من العرب أنفسهم، بلغتهم وآدابهم وبلاغتهم بل وأعرافهم، وربما بلغ حب بعضهم للعرب إلى حد تجاوز التقدير إلى شيء من التقديس!

        ولو انغلق دعاة الإسلام الأوائل من العرب على أنفسهم، وعملوا على استئصال ثقافات الشعوب المفتوحة، لما وجد الإسلام كل ذلك الرواج ولما استمرت تلك البلاد على الإسلام في عصور الضعف والتراجع والحرب الشاملة على الإسلام وأهله، وعلى الأقل فإن قاعدة "لكل فعل رد فعل مساو له في القوة ومضاد له في الاتجاه" كانت ستتحقق بانغلاق الآخرين على ثقافاتهم واعتزازهم بها مقابل النيل من الثقافة العربية الإسلامية.

        لكن ذلك لم يحصل إلا في العهود، التي حكم فيها المغول المسلمون شبه [ ص: 101 ] القارة الهندية وحكم العثمانيون الأتراك أوروبا الشرقية، حيث كانوا أقل تسامحا من العرب الأوائل وسعى بعض حكامهم لنشر ثقافتهم بعيدا عن القدوة الحسنة ومنهج الإقناع، مما أدى إلى ردود أفعال سلبية تسببت في بقاء الهند وأوروبا الشرقية ذات أغلبية غير مسلمة رغم أنها حكمت حوالي خمسة قرون من قبل مسلمين.

        وفي العصور المتأخرة التي وصل فيها العرب إلى مرحلة الانحطاط، كانت إحدى مظاهر هذا الانحطاط الانغلاق على الذات والتوجس من الآخر، وتغليب مشاعر الشك، والانطلاق في فهم الأشياء من تفسير تآمري، وتضييق مساحة التسامح مع المغاير العرقي والطائفي والمذهبي في إطار أمة الإسلام؛ فكانت النتيجة المرة لهذا كله هي تخفف بعض المجاميع الأعجمية من التمسك بالإسلام مع ارتدادها إلى ثقافاتها الأولى، التي يعتقدون أنها لا تمس تمسكهم بالإسلام، حيث عادت اللغات الفارسية والتركية والكردية والأوردية والأفغانية وغيرها لتصبح اللغات الأم لتلك الشعوب غير العربية، وظهرت قنابل موقوتة في البلدان العربية نفسها، كالقنبلة الأمازيغية في المغرب العربي الكبير، والقنبلة الكردية في سوريا والعراق، والقنبلة الزنجية في السودان وموريتانيا وتشاد، وذلك بسبب التدخلات الخارجية، ولكن يظل العامل الحاسم، كما أسلفنا، هو الأكثر فاعلية؛ إذ أنه يصنع القابلية لتلك التدخلات.

        وقد اتضح مبدأ انفتاح السلف الصالح على الآخر، وحدوث الاقتباس النافع منه، والاستفادة من خبراته ومنجزاته في أمور كثيرة، ويمكن إبراز أهمها في [ ص: 102 ] ثلاث نقاط أساسية، وهي:



        1- بناء مؤسسات الدولة الإسلامية:

        من نافلة القول: إن عرب الجزيرة العربية لم تكن لهم دولة عند ظهور الإسلام ولا سيما قبائل الشمال، التي انحدر منها النبي صلى الله عليه وسلم وفي بلادهم تقع مكة والمدينة المنورة، فقد ظلوا لفترة طويلة قبائل متناحرة، وبالتالي كانت الثقافة الجمعية غائبة لصالح حضور الفردية وطغيان الحس القبلي، وكان الفكر السياسي شديد البداوة بل شبه معدوم، فكيف استطاعوا بناء تلك الدولة القوية المترامية الأطراف بمؤسساتها الشورية والإدارية والمالية والأمنية، وبتلك السرعة وبذلك الإحكام وخاصة في العصر الراشدي؟

        بالتأكيد أن أهم عامل هو إعمال الفكر في ابتكار الآليات المناسبة لتحقيق مقاصد الإسلام، لكن الاستفادة من تجارب الآخرين احتلت حيزا واسعا في بناء مؤسسات الدولة، ومنها نظام الدواوين [1] ، والدواوين هي النسخة القديمة من نظام الوزارات في زماننا، حيث ديوان المال يقوم مقام وزارة المالية، وديوان الجند يقوم مقام وزارتي الدفاع والداخلية. وبالمناسبة لم ينقل ديوان الشام إلى العربية إلا الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان سنة 81هـ.

        [ ص: 103 ] وكانت العمـلـة الرومـانـيـة (الدنانير) هي العمـلـة الرئيسة السـائـدة عند المسـلمين، حـتى غيرها عبـد الملك بن مروان بـمشـورة من خالد بن يزيد ابن معـاوية لخـلاف حـدث بين عبـد الملك وإمـبراطـور الرومان، وذلك سنة 75هـ [2] .

        وحينما نقرأ الأوليات المنسوبة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه مثل: كتابة التاريخ ابتداء من الهجرة النبوية، واتخاذ بيت المال، والطواف بالليل لتفقد أحوال الرعية، واتخاذ الدواوين، وفتح الفتوح، واتخاذ الدرة، واستقضاء القضاء في الأمصار، وتمصير الأمصار [3] ؛ سنجـد الحضور اللافت للاقتباس المباشر أو غير المباشر من النظم التي كانت موجودة في تلك الفترة، وخاصة عند الرومان والفرس بحكم أنهما أكبر وأقوى دولتين في ذلك الزمان.

        2- افتتاح دوائر الترجمة والاقتباس:

        عرفنا فيما سبق أن بعض الصحابة كزيد بن ثابت رضي الله عنه قد تعلموا بعض اللغات الأجنبية، وصار هؤلاء جسرا للتلاقح الحضاري بين المسلمين وغيرهم. وصارت الترجمة ظاهرة عريضة في أوساط المسلمين تدريجيا كلما امتد الزمان وتوسعت الدولة وبرزت الإشكالات، التي تحتاج إلى حلول، وتولدت الأسئلة، التي تبحث عن إجابات، حيث ازدهر الاجتهاد وبرز الفقهاء والمفكرون، ونشطت في هذا السياق الترجمة للاطلاع على تجارب الآخرين عن كثب والاستفادة من نتاج التجارب الثرية والخبرات النافعة.

        [ ص: 104 ] وتروي كتب التاريخ أن الخليفة العباسي المنصور أول خليفة ترجمت له الكتب السريانية والأعجمية بالعربية، ككتاب "كليلة ودمنة" و"إقليدس"، وأن المهـدي بن المنصور أول من أمر بتصنيف كتب الجدل في الرد على الزنادقة والملحدين [4] .

        وإذا صحت هذه الرواية فإن المقصود بها أول من قام بالترجمة من حكام الدولة الإسلامية، أما شعوب المسلمين ونخبها المثقفة فلا بد أن الترجمة قد بدأت عندها قبل هذا العهد بكثير، إذ أن الدولة لم تكن بهذا التغول المعروف في هـذا العصر، وظـلت كثير من الوظائف حكرا على الشعوب، ومنها بالطبع الترجمة.

        وبالفعـل فـقـد أثبتت الـكتب المـوثقة أن خـالد بن يـزيد بن معـاوية ابن أبي سفيان (ت:85 هـ) كان أول من تفـرغ للـتـرجـمـة، فقد قام بترجمة كتب الفلسفة والنجوم والـكيمياء والطـب والحـروب والآلات والصناعات من اللغـات اليونـانية والـقبـطـيـة والسـريـانية والعـبرية إلى اللغـة الـعربـيـة، وأنه أول من جمعت له الكتب في تأريخ المسلمـين، واتـخـذ لها خزانة يرجح أنها في دمشق.. وأمر عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بنقل كتاب أهرن بن أعين في الطب إلى العربية [5] .

        [ ص: 105 ] وقد أصبحت الترجمة هواية وحرفة لعدد كبير من مثقفي المسلمين، وحظيت برعاية الحكام وتشجيع العلماء، وبرز عدد كبير من المترجمين الكبار، واحتلت الترجمـة من اللغة اليونانية مساحة عريضـة في خـارطة التـرجمـة [6] ، رغم أن الفرس مثلا كانوا أقرب للمسلمين جغرافيا وتاريخيا، ويبدو لي أن السـبب يعـود إلى أن الثقافة الفارسية كانت تعج بالتناقضات وتزخر بالخرافات، بينما كانت الفلسفة اليونانية ذات مسحة عقلية بارزة، وكانت تـحـظى بكـثير من المنطـق وتـمتـلك قدرا من النفع رغم غلوها في تقدير العقل، وهذا يؤكد المكانة المحترمة للعقل في الإسلام والمساحة الواسعة للعقلانية عند المسلمين.

        ومثلت الترجمة أحد الروافد، التي ظلت تصب في بحيرة الحضارة الإسلامية الضخمة خلال قرون من التفاعل الحضاري الخلاق، حيث ترجم المسلمون كتبا كثيرة في علوم الطب والفلسفة والفلك والهندسة، وكان الخليفة العباسي المأمون يمنح كل من يترجم كتابا وزنه ذهبا، بجانب المكانة المعنوية، التي تمنحه الكثير من الامتيازات داخل المجتمع الإسلامي.

        وكانت الترجمة في هذه العلوم من القوة بمكان، لدرجة أن أحد العلماء جعلها أحد عوامل ازدهار الفقه الإسلامي، حيث ظهرت التخصصات ونمت [ ص: 106 ] بشكل قوي وسريع، ووضعت أصول الاجتهاد وقواعد الفقه على أوسع نطاق، واتسعت مصادر الفقه المبني على الرأي كالقياس، والمصالح المرسلة، والاستصحاب، والاستحسان، وسد الذرائع، والعرف، مع وضع العلماء للضوابط وقواعد الاحتجاج بهذه المصادر [7] .

        ويشهد عالم الرياضيات الإنجليزي "جون ماكليش" بالنهم العلمي الشديد لدى المسلمين، فيقول: "ومع أن المسلمين الأولين كانوا متحمسين لنشر رسالة الدين الجديد، فإن العرب، من وجهات أخرى، اتصفوا بالقدرة على التمثل وعلى التكيف الفكري، وكانوا شغوفين باستيعاب وتطوير ونقل الحضارة والعلوم من جميع البلاد، التي وقعت تحت سيطرتهم، وبالتعلم قدر طاقتهم من الحضارات القديمة كالمصرية والبابلية والهندية، ودرس علماؤهم علوم الغرب وترجموا النصوص الإغريقية واللاتينية" [8] .

        وهكذا، فقد كانت الترجمة أحد الأبواب، التي ولج المسلمون من خلالها إلى الآخر للاطلاع على ما عندهم والاستفادة من تجاربهم، غير أن ضعف الوعي بالإسلام، الذي بدأ بالظهور منذ نهاية القرن الهجري الثالث، قد أضعف مناعتهم الفكرية، مما تسبب في تجاهل أو الجهل بالمعايير الإسـلامية في الترجمة؛ وأدى ذلك إلى انفتاح الأبواب على مصاريعها للاقتباس المنفلت [ ص: 107 ] من أي ضوابط، وتسبب في صناعة كثير من التداعيات السلبية، التي سنمر على بعضها في المبحث الثالث.

        3- اقتباس الوسائل المحققة لمقاصد الإسلام:

        جاء الإسلام منذ فجر البشرية لتحقيق مقصد غائي وهو عمارة الأرض، كما قال تعالى على لسان نبي الله صالح، عليه السلام: هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها (هود:61) ، أي طلب منكم عمارتها وفق منهج السماء، وفي كل ميادين العمارة وخلافة الإنسان لله في هذه المهمة إنما نص القرآن على المقاصد، تاركا الوسائل والأساليب والآليات للعقول لكي تبتكر في كل ظرف زماني ومكاني ما يحقق المقاصد بأفضل كفاءة ممكنة، وفقا لحاجات الناس وضمن خصوصياتهم المختلفة.

        ونتيجة اهتمام المسلمين بالعلم والفكر وعنايتهم بالبحث والتنقيب، فقد ابتكروا كثيرا من هـذه الأمور، لكنهم لم يرسمـوا خططهم العلمية من الصفر ولم يبدأوا مبانيهم العملية من القاع، وإنما بنوا مشاريعهم النهضوية على اللبنات القوية التي ورثوها عن أسلافهم، واستفادوا كذلك مما اقتبسوه من غيرهم، سواء كانوا معاصرين لهم كالفرس والرومان أو قدامى كاليونانيين والهنود، وهذا يؤكد مرة أخرى أهمية الانفتاح على الآخرين والاقتباس منهم في زماننا، والاستفادة من منجزاتهم وخبراتهم في علوم الحياة وميادينها المختلفة.

        [ ص: 108 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية