الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        ثانيا: وحدة الرسالات السماوية:

        هناك ثلاث رسالات سماوية معروفة هي حسب ترتيب ظهورها: اليهودية والنصرانية والإسلام، ومن المحتمل أن تكون البوذية والكونفوشية والهندوسية ديانات سماوية في الأساس، حيث يلاحظ المرء فيها شبها في بعض القيم والأخلاق مع الدعوات السماوية المعروفة على وجه اليقين.

        ولقد ذكر القرآن الكريم أن ما قصه الله من قصص الأنبياء إنما هي نماذج للتأسي والاقتداء، كما قال تعالى: ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك (غافر:78) ، وأخبر أن الله بعث في كل الأمم أنبياء: [ ص: 139 ] وإن من أمة إلا خلا فيها نذير (فاطر:24) ، وقال: ولكل قوم هاد (الرعد:7) ، والأنبياء المذكورون في القرآن كلهم ينتمون إلى جزيرة العرب وأكنافها، ولم يتحدث عن أنبياء ظهروا في الصين والهند والأميركتين وأستراليا وأوروبا وروسيا بموجب الآيات السابقة، مما يعني أن المذكورين مجرد نماذج من أولئك الأنبياء، الذين لا يعلم عددهم إلا الله.

        وسنسعى لإجلاء حقيقة وحدة الرسالات السماوية في مضمار بحثنا، وذلك من خلال النقاط الآتية:

        1- وحدة الأصل وتعدد الفروع:

        أصل القرآن لمسألة الأمة الإنسانية الواحدة في آيات عديدة، ومنها قوله تعالى: إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون (الأنبياء:92) ، حيث أمرهم بالـعبادة من خلال المناهج الموضحة في كتبهم قبل التحريف.

        وعندما تمر سلالة الأنبياء وسلسلة الرسالات في ذهني أتخيلها كشجرة باسقة ذات أصل واحد وفروع مختلفة، ولم يأت هذا الخيال من فراغ وإنما جاء كثمرة لتدبر النصوص القرآنية ذات الصلة بهذا الموضوع، ومن هذه الآيات قوله تعالى: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون (المؤمنون:51-53) ، فإن الله يقرر وحدة الرسالات، التي مزقتها الأفهام العوجاء والتعصبات العمياء، [ ص: 140 ] ويؤكد المولى عز وجل أن اسم الإسلام، الذي هو عنوان ديننا، ليس جديدا بل هو من أيام الحنيفية الإبراهيمية، فقد كان هو من أطلق هذا الاسم، وجاء هذا التأكيد في مقام الدعوة للجهاد في سبيل الله، كأنه يرفع الحرج عن من يترددون عن القتال، وفي ذات الوقت يضبط انفعالات الذين يتشوقون للخوض في دماء الآخرين بدون ضوابط، كأنه يقول لهم: إن من تقاتلونهم إنما هم إخوانكم في الإنسانية وكانوا إخوانكم في الدين الواحد، الذي فرقه التشيع البشري ومزقته التحزبات الآدمية، قال تعالى: وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير (الحج:78).

        وهكذا، فإن الآية التي تقرر أن أمة المسلمين هي أمة الشهود الحضاري تؤكد أنها امتداد للأمم قبلها، ومن ثم فإنها وارثة ما تملكه جميع الأمم من صواب يمكن أن يعود على الأمة بالنفع والفائدة، ولا سيما أنها مسؤولة عن كافة الأمم الأخرى، كما سيسأل محمد صلى الله عليه وسلم عن أمته.

        وفي هـذا السـيـاق صـاغ العلامة الـهـنـدي ولي الله الدهلوي، رحمه الله (باب بيان أن أصل الدين واحد والشرائع والمناهج مخـتـلفة) [1] ، وافتتـحـه بقـوله سبحانه وتـعـالى: [ ص: 141 ] شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ... (الشورى:13) ، ونقل عن التابعي مجاهد قوله: "أوصيناك يا محمد وإياهم دينا واحدا"، ثم أورد عددا من الآيات التي تؤكد هذه الحقيقة، ومنها قوله تعالى: لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه (الحج:67) قال: "يعني شريعة هم عاملون بها" [2] .

        ومضى في تعداد الثوابت التي برزت في كافة الديانات السماوية في العقائد والشعائر والشرائع، ومنها "إمامة العدل بين الناس، وتحريم المظالم، وإقامة الحدود على أهل المعاصي، والجهاد مع (هكذا) أعداء الله، والاجتهاد في إشاعة أمر الله ودينه" [3] ، وأوضح أن الارتفاقات تقوم على الشرائع والمناهج، مؤكدا أن "كل ما لا يتم في العقل أو العادة إلا به فإنه جملة يجر بعضها بعضا" [4] .

        2- القرآن وارث الكتب السماوية كافة:

        أشار القرآن إلى وحدة الكتب السماوية عبر تسمية أصحابها بـ(أهل الكتاب) مع أنهم أصحاب كتب عديدة وليست كتابا واحدا، وهي التوراة والإنجيل والزبور والصحف، إذ لما كان مصدرها واحدا وأصولها واحدة فقد سماها (كتاب)!

        [ ص: 142 ] وعلل عز وجل إنزال القرآن ببيان ما في الكتب السماوية السابقة، فقال: وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون (النحل:44) ، فقد أنزل القرآن الذي سماه هنا الذكر ليبين للناس وليس للمسلمين فحسب ما نزل إليهم في التوراة والإنجيل والزبور والصحف وغيرها من الكتب، التي لم يرد ذكرها في القرآن، فلقد كانت الرسالات السابقة محدودة زمانا ومكانا، وكانت الكتب السماوية محدودة في اهتماماتها الإصلاحية بناء على ذلك، ولذلك لم يتعهد الله بحفظها بل أوكل حفظها للناس، بينما أودع كافة الأبعاد الإصلاحية، التي تحتاجها البشرية في كتاب القرآن، وجعله كتابا خالدا إلى قيام الساعة، وتعهد بناء على ذلك بحفظه بنفسه: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (الحجر:9).

        ومما يؤكد هيمنة القرآن على الكتب السابقة قوله تعالى: وإنه لفي زبر الأولين (الشعراء:196) ، أي أن تعاليم القرآن ثاوية في الكتب السماوية السابقة قبل أن يطرأ عليهـا التحريف والتبـديل، وضمير الغائب في وإنه يعود على القرآن، فلقد سبق هذه الآية قوله تعالى: وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين (الشعراء:192-195).

        ولأن القرآن دستور الزمان والمكان فقد عمد الله فيه إلى صياغة قواعد كلية وقوانين عامة، وإلى تقرير أصول جامعة وتحديد مقاصد عريضة، ولم يخض في الجزئيات والتفاصيل ولا في الوسائل والآليات، ومن ثم فكل خير وجد في [ ص: 143 ] تلك الكتب أو عند أتباعها مما يحقق مصلحة أو يدفع مفسدة إنما هو من آثار الحنيفية، التي صبغت الديانات السماوية كلها، ولا مانع بالتأكيد من الاستفادة منها من قبل أتباع القرآن الكريم، إن لم يصل الأمر إلى حد الوجوب، كما ذكرنا من قبل.

        ومن المعلوم أن الله جعل الإنجيل متمما لما في التوراة من أحكام، وناسخا لما فيها من آصار فرضها اليهود على أنفسهم تعبدا وتحنثا فأوجبها الله عليهم عقابا وابتلاء، وكان هذا الأمر تمهيدا لهيمنة القرآن على ما قبله من كتب سمـاوية، بجمعه لكافة الأبعاد الثاوية في الكتب كلها، ونسخه لما فيها من آصار وأغلال.

        3- محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء:

        كما أن القرآن خاتم الكتب ومهيمن عليها فإن محمدا صلى الله عليه وسلم هو خاتم الرسل جميعهم: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما (الأحزاب:40) ، وكما أن النصارى لا يجدون تناقضا بين إيمانهم بموسى وإيمانهم بعيسى ولا يرون تضادا بين إيمانهم بالتوراة وإيمانهم بالإنجيل؛ فإن الناس جميعا ينبغي أن يؤمنوا بمحمد دون أن يكفروا بأنبيائهم السابقين، ويجب عليهم أن يتحملوا القرآن دون أن يطرحوا ما لم يتم تحريفه في كتبهم.

        فالقرآن هو المقياس عندما يحدث أي لبس، فهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والقرآن لم يأت ناقضا للكتب السابقة بل [ ص: 144 ] جاء جامعا لها ومؤكدا عليها، ولذلك قال تعالى: وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه (الأنعام:92) والـذي بـين يديـه أي ما سبقه وهو بلا شك الإنجيل وما سبقه من كتب وأولها التوراة والزبور.

        ولقد أسلفنا في إيضاح وحدة الرسالات وتشابه قصص الأنبياء، وفي هذا الإطار نجد القرآن يقول للمسلمين: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين (النحل:36) ، وقد أسلفنا في توضيح أن السير في الأرض يتضمن الاستفادة من الآخرين بما فيها الاستفادة السلبية، التي تقوم على النظر في العواقب باستجلاء مقدماتها واستيضاح أسبابها.

        وفي ذات الإطار، قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك (فصلت:43) ، مما يؤكد تشابه التصورات والتصرفات الإنسانية وتماثل الطبائع والأمزجة البشرية، وهذا يمنح مجالا واسعا لمن يريد تحقيق الاستفادة المثلى، حيث تمتلئ قصص الأنبياء والصالحين بل وقصص الطغاة والمنحرفين بالدروس الكثيرة والعبر الوفيرة .

        والعجيب أن واحدة من أهم الآيات في تقرير أصل الاستفادة من الآخرين وردت في مقام ذكر أهل الرسالات السابقة، قال تعالى: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (النحل:43) ، وتكرر ذات المعنى بذات الألفاظ، مع فارق حذف [ ص: 145 ] حرف (من) من الآية الثانية، وذلك في قوله تعالى: وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (الأنبياء:7) ، وأهل الذكر هم أهل التخصص والدراية في موضوع ما، سواء كان تاريخيا أو جـغرافيا، زراعيـا أو صـناعيا، أخـلاقيا أو مهنيـا، ويفتح هذا بلا شك أوسع الأبواب للاستفادة والاقتباس من الآخرين، مع الحذر بالطبع من تسلل علل الأمم والحضارات الأخرى إلى ثقافتنا وحضارتنا الإسلاميتين، سواء كانت قديمة أو معاصرة .

        وقد أشار موسى، عليه السلام، وهو يحاجج قومه إلى التشابه في عداوة الناس للأنبياء فقال: ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب (إبراهيم:9) ، ومن يتأمل هذه الآية يدرك كم أن طبائع الشر في البشر متشابـهـة، فقد ووجه سائر الأنبياء بالتـكذيب والكفر، ورد الكافرون أيديهم في أفواههم إما غيظا أو تعجبا من كلام الأنبياء، وهذا ما نقله شيخ المفسرين ابن جرير الطبري عن عدد من مفسري السلف [5] .

        [ ص: 146 ] ولقد ربط القرآن الكريم ربطا وثيقا بين دعوة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم وبين دعوة الخليل إبراهيم، عليه السلام، الذي كان عرب الشرك على بقايا من دينه، حيث أبرز الترابط بين سلسلة النبوات، مبينا أنه جعل إبراهيم إماما يقتدى به إلى يوم القيامة، ومن هذه الآيات قوله تعالى: ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (النحل:123) ، بمعنى أن ما أقره صلى الله عليه وسلم من قيم الجاهلية وأخلاقها إنما هو من بقايا الحنيفية السمحة، ونلاحظ هنا أن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم لإبراهيم كان وحيا ربانيا وأمرا إلهيا لا يحتمل التأويل ولا يقبل التفريط.

        وقد أثنى القرآن على من اتبع ملة إبراهيم فقال: ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا ... (النساء:125) ، واتـهم من يرفض هـذا الاتباع بالسفه وخفة العقل، فقال: ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه (البقرة:130) ، ولقد أمر الله المؤمنين فقال: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى (البقرة:125) بل أمرهم بالتأسي به وبمن معه فقال: قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ... (الممتحنة:4).

        وبعد ذلك كله فإن إبراهيم، عليه السلام، هو من وضع القواعد للبيت الحرام، وهو الذي وضع قواعد هذا الدين العظيم وسماه الإسلام، كما أسلفنا في بيان ذلك، وهو الذي دعا للبلد الحرام بأن يجعله الله آمنا وأن يرزق أهله من الثمرات، مع أنه يقع في واد غير ذي زرع، ولذلك كله فإن الله عندما تنازع [ ص: 147 ] المسلمون وأهل الكتاب على إبراهيم، عليه السلام، قال: إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين (آل عمران:68).

        ومع أن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم في أمة وصفها بالضلال المبين بعد أن حادت عن دعوة إبراهيم، عليه السلام، وحرفت كثيرا من تعاليمه الحنيفية، إلا أن ذلك لم يدفعه للثورة على كل شيء، فقد غربل كل شيء، فقوم ما هو معوج من القيم والأخلاق والمعاملات، وترك ما هو صالح لجلب المنافع أو دفع المضار، حيث أقر القبائل العربية على ما كانت تدين به من توحيد الربوبية، كما قال تعالى: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله (لقمان:25) ، وقال: ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله ... (العنكبوت:63) ، لكنه قوم اعوجاجهم في توحيد الألوهية فدعاهم إلى نبذ عبادة الأصنام والاقتصار على عبادة الله وحده لا شريك له.

        ولقد أقر بعض صور الطهارة والصلاة، وأثنى على ما بقي فيهم من صور الزكاة كقرى الضيف وابن السبيل، وحمل الكل، والصدقة على المساكين، وصلة الأرحام، والإعانة في نوائب الحق، وأقرهم على الصيام، الذي كان يتم من الفجر إلى غروب الشمس، مع ضبط الأيام وتحديد الشروط والآداب اللازمة لقبول ذلك الصيام، وفي إطار الحج أقرهم على تعظيم شعائر الحج والأشهر الحرم وعلى النحر بعد تخليصه - أي النحر - مما علق به من شوائب الشرك، [ ص: 148 ] وفي إطار المأكولات والمشروبات والمعاملات أقرهم على بعضها وحرم عليهم أشياء كانوا يستحلونها وأباح لهم أشياء كانوا يحرمونها على أنفسهم [6] .

        وبهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أزال الزوائد وعالج الاختلالات وأعاد اللحمة بين سائر العبادات، بما يؤكد علاقة الرحم بين سائر الثقافات والحضارات، ويجعل الاسـتفادة ممكنة ما دام صاحبها ملتزما بالضوابط، التي سنـوضـحـها في المطلب القادم.

        وقبل أن ننهي هذه الفقرة نؤكد أن الأنبياء كانوا منحازين دوما إلى الحق والحقيقة، أي أنهم كانوا موضوعيين بمصطلح هذا الزمان بصورة ليس لها مثيل، وقد وصل الانحياز بهم إلى الحق والالتزام به إلى حد أنهم كانوا يقولون في دعائهم: ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين (الأعراف:89) ، فهل يحتاج الرب إلى طلبهم حتى يحكم بالحق؟ حاش لله، فهو الحق المبين والحكم العدل، لكن التزامهم الصارم بالحق جعلهم يقولون هذا أمام أقوامهم حتى يؤكدوا لهم أنهم لا يبتغون غير الحق ولو كان على أنفسهم.

        ولأن الإسلام دين ينحاز بكليته إلى الموضوعية ويرفض عكسها؛ فإنه يأبى التعميم وإطلاق الأحكام الكلية، وشعاره في ذلك هو قـوله تعالى: ليسوا سواء (آل عمران:113) عندما تحدث عن أهل الكتاب، [ ص: 149 ] فهو يرفض تعميم الأحكام والتسوية بين المتقابلين؛ ولهذا وردت ألفاظ التجزئة كثيرا مثل لفظ الكثرة الذي تردد مائة وثلاثة وأربعين مرة في القرآن، فقد ورد لفظ كثير سبع عشرة مرة، ولفظ كثيرا ستا وأربعين مرة، ولفظ أكثر ثلاثا وثلاثين مرة، و أكثركم مرتين، و أكثرهم خمسا وأربعين مرة.

        ومن المعلوم أن الموضوعية عكس الذاتية والشخصانية، وهذا ما يقرره الإسلام، فإنه يتمحور حول الأفكار والأخلاق وليس حول الأشخاص، وكمثال دقيق على ذلك نجد أن القرآن قد قرر بأن النصر الحتمي سيكون لهذا الدين، كما في قوله تعالى: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون (التوبة:33) ، وقوله تعالى: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا (الفتح:28) ، حيث نلاحظ بجلاء أن الإسلام يواجه الأفكار لا الأشخاص وأن نصره الحتمي سيكون على الدين كله أي الأديان وليس على الأمم.

        ونستطيع أن نجزم بيقين أن الإسلام دين الحق، لكن الحقيقة الحضارية تتوزع بين جميع الثقافات والحضارات، ومن ثم فإن الإسلام يفتح لأتباعه أبواب الاستعارة والاقتباس، إذ أن الحضارة صناعة عالمية مشتركة ولا يستطيع أن يحتكرها أحد، كما سيأتي في الفقرة الآتية.



        [ ص: 150 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية