الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        ثانيا: الفهم العميق للواقع الإسلامي:

        سطر القرآن دروسا عديدة في قصصه حول وجوب الفقه بالواقع، ونشير في هذه العجالة إلى درس واحد ورد في قصة أهل الكهف، فقد ألقى الله عليهم النوم لما يزيد عن ثلاثة قرون، وعندما عادوا إلى عالم اليقظة كان الناس قد اعتنقوا دينهم وتغيرت الحياة تماما، ومع ذلك فإن الله بعد استيقاظهم ومعرفتهم بما حدث، قد أماتهم ولم يبقهم ليتمتعوا بمرحلة القوة والتمكين بعد معاناتهم من الظلم والاضطهاد.

        وعندما نبحث عن العلة سنكتشف أن ما يسمى بصراع الأجيال سيكون حاضرا بقوة في هذه الحالة نظرا للفارق الزمني الطويل، بمعنى أن أولئك [ ص: 170 ] الفتية الذين صاروا قدوات لهذا المجتمع الجديد، قد تقولبت عقولهم على الزمن الذي عاشوه، ومن المرجح أنـهم لن يستـطيـعوا التـلاؤم مع الـواقـع الجـديد مهمـا كانت مرونـتـهم؛ نظرا لطـول الفارق الزمـني ولعدم فهمهم لطبيـعـة المجتمع الجديد بعد ثلاثة قرون من التشكل، مما قد يدفعهم لارتكاب أخطاء ربما أتت على رصيدهم الجهادي في أذهان الأجيال الجديدة وأسقطتهم من مقام القدوات.

        وهذا يؤكد: أن من يتصدى لعمليات الاقتباس والاستفادة الحضارية لابد أن يكون على معرفة عميقة بالواقع الإسلامي، بحيث يعرف حاجات المجتمعات الإسـلامية ويدرك التحـديات التي تعـترض طريـقها، ويعرف خصـوصـياتـها، التي لا تقبل التعديل والخصوصيات التي يمكن التعامل معها بحكمة من أجل إحداث التغيير المطلوب دون إثارة البلبلة أو استثارة جهازها المناعي، ويدرك نقاط ضعف هذه المجتمعات والتي تحتاج إلى تقوية، ويعرف كيف يدخل الأمور المقتبسة ضمن منظومة الأمة دون إقحامها إقحاما، بحيث تقوي جدران الأمة ولا تضعفها، وتساهم في حل مشكلاتها ولا تزيد منها أو تفاقمها.

        لقد نظرت في قصص كثير من الذين دخلوا إلى إصلاح حالات مـجتمعاتـهـم من خـلال المنظـور الغربي؛ فوجـدت أن بعضهم - على الأقل- لا ينقصهم الإخلاص لأمتهم وإنما كانوا يعانون من خلل مريع في فهم طبيعة الإسلام أو في فهم طبائع المجتمعات المسلمة أو في كليهما؛ مما دفعهم إلى [ ص: 171 ] ارتكاب حماقات كثيرة وكبيرة، حيث أرادوا تجديد كل شيء بما فيه الثوابت، التي تعد من المعلوم من الدين بالضرورة، واستفزوا المجتمعات بانتهاك مقدساتها واجتياح خصوصياتها، وبذلك فإنهم قد أيقظوا جهاز المناعة واستثاروا طاقة المقاومة داخل مجتمعاتنا، لتنشب معارك ثقافية ضارية تطورت في بعض الأحيان لتصبح معارك مادية حامية الوطيس، صنعت العديد من المآسي وتسببت في كثير من التـداعـيـات، وبذلك فإن الأمـة لم تستبق خصوصياتها ولم تنجح في ارتياد العصر كما فعلت كثير من المجتمعات غير المسيحية كمجتمعات جنوب شرق آسيا!

        ومما يؤيد هذا التحليل أن بعض الأشخاص الذين ساروا في هذا الدرب التغريبي الزلق عادوا إلى حضن الإسلام وإلى جادة الصواب، عندما توفرت لهم الظروف التي جعلتهم يعيدون النظر في أفهامهم السابقة للإسلام، وعندما تعمقت معرفتهم بالواقع الإسلامي، ومن هؤلاء: الشيخ علي عبد الرازق صاحب كتاب (الإسلام وأصول الحكم) ، ود. طه حسين صاحب كتاب (مستقبل الثقافة في مصر) ، وخالد محمد خالد صاحب كتاب (من هنا نبدأ) ، وكذا د. محمد حسين هيكل وسيد قطب ود. مصطفى محمود وعادل حسين وهؤلاء من مصر فقط، وهناك شبيهون لهم من أقطار أخرى كالفلسطيني منير شفيق واليمني عبد العزيز المقالح والسوداني أحمد سليمان، الذي كان نائبا لرئيس الحزب الشيوعي في السودان، فقد كان هؤلاء من أعلام التغريب لكنهم عادوا ونادوا بالعودة إلى الإسلام عقيدة وشريعة، وإن لم تشتهر عودة بعضهم [ ص: 172 ] بفعل من مكر التغريبيين وسذاجة الإسلاميين!

        ورغم أن النخب التغريبية تعيش بين أظهر المسلمين وتنتمي إليهم، لكنها نتيجة انبهارها الشديد بالغرب تستخدم مقاييس الغرب الثقافية والاجتماعية لقياس كل شيء في بلدان المسلمين، مما جنح بها بعيدا عن قيم هذا الدين، لتفقد عامة الناس الثقة بها، ومن ثم لم تنجح في تحقيق أي تقدم في المجتمعات التي ناضلت من أجل تطويرها حتى بالمقاييس المادية البحتة للغرب، رغم أن هذه النخب أمسكت بمقاليد أكثر البلدان الإسلامية وتمكنت من رقاب الشعوب وحكمتها بالحديد والنار، بجانب امتلاكها لمؤسسات التربية والتعليم وأجهزة التوجيه وصناعة الوعي طيلة عقود من الزمن.

        ومن ثـم لا يـمـكن لأي عمليـة اقتباس أن تنجـح ما لم يكن القائمون عليها على وعي كامل بـخـصوصيات المـجتمعات الإسـلامية، بحيث يراعوها في ما يبذلون من جهود، وبحيث تطمئن المـجـتمعات على خصـوصـياتـها وتتأكد أن هؤلاء ليسوا جزءا من جيوش الغزو الفكري، وتوقن أن غرضها هو تقديم الوسائل المتطورة لخدمة مقاصد الإسلام وتطوير الدنيا حتى تكون مضمـارا لتحقيق العبـودية الشـاملة لله وطـريـقا لتحـقيق مرضاة الله والوصول إلى جناته.

        وبدون ذلك ستظل محاولات عصرنة المجتمعات الإسلامية تتكسر على صخرات المقاومة الشديدة من قبل مجاميع عريضة من التيارات التقليدية [ ص: 173 ] والمحافظة داخل البلدان الإسلامية.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية