الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
قال : ( ويصلي العراة وحدانا قعودا بإيماء ) وقال بشر المريسي رحمه الله يصلون قياما بركوع وسجود وهو قول الشافعي رضي الله تعالى عنه ; لأنهم عجزوا عن شرط الصلاة وهو ستر العورة فهم قادرون على أركانها ، فعليهم الإتيان بما قدروا عليه ، وسقط عنهم ما عجزوا عنه ، ومذهبنا مروي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم قالا : العاري يصلي قاعدا بالإيماء ، ولأن القعود والإيماء أستر لهم ، وفي القيام والركوع والسجود زيادة كشف العورة ، وذلك حرام في الصلاة وغير الصلاة ، فكل ركوع وسجود لا يمكنه [ ص: 187 ] أن يأتي به إلا بكشف العورة فذلك حرام ، فلا يكون من أركان صلاته ، فلهذا لا يلزمه القيام والركوع والسجود . وإن صلوا جماعة قياما بركوع وسجود أجزأهم ; لأن تمام الستر لا يحصل بالقعود فتركه لا يمنع جواز الصلاة ، وإنما أمرناهم بترك الجماعة ليتباعد بعضهم من بعض ، فلا يقع بصر بعضهم على عورة البعض ; لأن الستر يحصل به ولكن الأولى لإمامهم إذا صلوا بجماعة أن يقوم وسطهم لكي لا يقع بصرهم على عورته ، وإن تقدمهم جاز أيضا وحالهم في حال الموضع كحال النساء في الصلاة فالأولى أن يصلين وحدهن ، فإن صلين بالجماعة قامت إمامهن وسطهن ، وإن تقدمتهن جاز فكذلك حال العراة . وإن كان مع العاري ثوب فيه نجاسة ، فإن كان قدر الربع من الثوب طاهرا يلزمه أن يصلي فيه فلو صلى عريانا لم تجز ; لأن الربع بمنزلة الكمال في بعض الأحكام ألا ترى أن نجاسة الربع في حالة الاختيار في المنع من جواز الصلاة كنجاسة الكل فكذلك طهارة الربع في حالة الضرورة كطهارة الكل لوجوب الصلاة فيه ، وأما إذا كان الثوب كله مملوءا دما ، أو كان الطاهر منه دون ربعه فعند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله تعالى - يخير بين أن يصلي عريانا وبين أن يصلي فيه وهو الأفضل ، وقال محمد رحمه الله تعالى لا تجزئه الصلاة إلا فيه ; لأن الصلاة في الثوب النجس أقرب إلى الجواز من الصلاة عريانا ، فإن القليل من النجاسة في الثوب لا يمنع الجواز ، فكذلك الكثير في قول بعض العلماء ، وقال عطاء من صلى وفي ثوبه سبعون قطرة من دم جازت صلاته ، ولم يقل أحد بجواز الصلاة عريانا في حالة الاختيار ، ولأنه لو صلى عريانا كان تاركا لفرائض منها ستر العورة ومنها القيام والركوع والسجود ، فإذا صلى فيه كان تاركا فرضا واحدا وهو طهارة الثوب فهذا الجانب أهون .

{ وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها : ما خير الرسول صلى الله عليه وسلم بين شيئين إلا اختار أهونهما فمن ابتلي ببليتين فعليه أن يختار أهونهما } وأبو حنيفة وأبو يوسف - رحمهما الله تعالى - قالا : الجانبان في حكم الصلاة سواء على معنى أن كل واحد منهما ضرورة محضة لا تجوز عند الاختيار في النفل ولا في الفرض يعني الصلاة عريانا والصلاة في ثوب مملوء دما ، وإنما يعتبر التفاوت في حكم الصلاة ، فإذا استويا خير بينهما ، والأولى أن يصلي فيه ; لأن ستر العورة غير مختص بالصلاة ، وطهارة الثوب عن النجاسة تختص بها ، فلهذا كان الأفضل أن يصلي فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية