الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              107 [ 58 ] وعن ابن عباس ، قال : مطر الناس على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أصبح من الناس شاكر ، ومنهم كافر ، قالوا : هذه رحمة الله ، وقال بعضهم : لقد صدق نوء كذا وكذا ، قال : فنزلت هذه الآية : فلا أقسم بمواقع النجوم حتى بلغ : وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون [ الواقعة : 75 - 82 ] .

                                                                                              رواه مسلم ( 73 ) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و (قوله : " أصبح من الناس شاكر ، ومنهم كافر ") أصل الشكر : الظهور ; ومنه قولهم : دابة شكور : إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تأكله من العلف . والشاكر : هو الذي يثني بالنعمة ويظهرها ويعترف بها للمنعم ، وجحدها : كفرانها ; فمن [ ص: 261 ] نسب المطر إلى الله تعالى ، وعرف منته فيه ، فقد شكر الله تعالى ، ومن نسبه إلى غيره ، فقد جحد نعمة الله تعالى في ذلك ، وظلم بنسبتها لغير المنعم بها ; فإن كان ذلك عن اعتقاد ، كان كافرا ظالما حقيقة ، وإن كان عن غير معتقد ، فقد تشبه بأهل الكفر والظلم الحقيقي ; كما قلناه آنفا .

                                                                                              وقد قابل في هذا الحديث بين الشكر والكفر ; فدل ظاهره على أن المراد بالكفر هاهنا كفران النعم ، لا الكفر بالله تعالى .

                                                                                              ويحتمل أن يكون المراد به الكفر الحقيقي ; ويؤيد ذلك استدلال النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى : وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون [ الواقعة : 82 ] أي : تجعلون شكر رزقكم التكذيب ; على حذف المضاف ; قاله المفسرون ، وقرأ علي : " وتجعلون شكركم " فعبر عن الرزق بالشكر ، والرزق : الشكر بلغة أزد شنوءة ، يقال : ما أرزقه ! أي : ما أشكره ! وما رزق فلان فلانا ، أي : ما شكره .

                                                                                              و (قوله : فلا أقسم بمواقع النجوم [ الواقعة : 75 ] ) أصله : للقسم ; قاله ابن عباس . وقرأ عيسى : " لأقسم " بحذف الألف ; كأنه قال : لأقسمن ، فحذف نون التوكيد ، وكذلك قرأ الحسن والفراء في رواية البزي : " لأقسم [ ص: 262 ] بيوم القيامة " ويلزم ذلك النون الشديدة أو الخفيفة ، وحذفها شاذ .

                                                                                              و " مواقع النجوم " مساقطها ، وقيل : مطالعها ، وقيل : انكدارها وانتثارها يوم القيامة . وقيل في تأويل الآية : إنها قسم بقلب محمد - صلى الله عليه وسلم - ، والنجوم هي القرآن ; لأنه أنزل نجوما ; وروي ذلك عن ابن عباس ، والقسم : الإيلاء والحلف . وهذا وأشباهه قسم من الله تعالى على جهة التشريف للمقسم به ، والتأكيد للمقسم له ، ولله تعالى أن يقسم بما شاء من أسمائه وصفاته ومخلوقاته تشريفا وتنويها ; كما قال : والشمس وضحاها ، والليل إذا يغشى ، والعاديات ، والمرسلات ، والنازعات ونحو هذا .

                                                                                              وقد تكلف بعض العلماء ، وقال : إن المقسم به في مثل هذه المواضع محذوف للعلم به ; فكأنه قال : ورب الشمس ، ورب الليل . والذي حمله على ذلك : أنه لما سمع أن الشرع قد نهانا أن نحلف بغير الله تعالى ، ظن أن الله تعالى يمتنع من ذلك ، وهذا ظن قاصر وفهم غير حاضر ; إذ لا يلزم شيء من ذلك ; لأن لله تعالى أن يحكم بما شاء ، ويفعل من ذلك ما يشاء ; إذ لا يتوجه عليه حكم ، ولا يترتب عليه حق . وأيضا : فإن الشرع إنما منعنا من القسم بغير الله تعالى ; حماية عن التشبه بالجاهلية فيما كانوا يقسمون به من معبوداتهم ومعظماتهم الباطلة ; على ما يأتي الكلام عليه في " الأيمان " .

                                                                                              وقوله : إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون [ الواقعة : 77 - 78 ] الكريم : الشريف الكثير المنافع السهلها . والمكنون : المصون المحفوظ ، ويعني بالكتاب : اللوح المحفوظ ; كقوله : بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ [ البروج : 21 - 22 ] .

                                                                                              والمطهرون بحكم عرف الشرع : هم المتطهرون من الحدث ; وعليه فتكون " لا " نهيا ، ويمسه مجزوم بالنهي ، وضمت سينه لأجل الضمير ; كما قالوا : شره ومره . ويجوز أن يكون خبرا [ ص: 263 ] عن المشروعية ، أي : لا يجوز مسه إلا لمن تطهر من الحدث ، ويكون هذا نحو قوله تعالى : والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين [ البقرة : 233 ] . وهذا تقرير وجه من استدل بالآية على تحريم مس القرآن على غير طهارة ، وهم الجمهور ، وأما من أجاز ذلك ، وهم أهل الظاهر : فحملوا الآية على أنها خبر عما في الوجود ، أي : لا يمسه ولا يناله ولا يباشره إلا الملائكة ، وهم المطهرون بالحقيقة ، وتكون هذه الآية مثل قوله : في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة [ عبس : 13 - 16 ] ; وإلى هذا صار مالك في تفسير هذه الآية ، مع أن مذهبه أنه لا يجوز لمحدث مس المصحف ; أخذا بهذا الحكم من السنة الثابتة عنده ، لا من الآية ، والله تعالى أعلم . وقد قيل في الآية : لا يمسه : لا يفهمه ولا يجد حلاوته إلا المؤمنون المحققون ، والأول الظاهر .

                                                                                              و (قوله : " أفبهذا الحديث أنتم مدهنون [ الواقعة : 81 ] يعني بالحديث : القرآن ; لأنه أحاديث عن الأمم الماضية والوقائع الآتية ، والأحكام الجارية . و مدهنون : مكذبون ، وأصله من الدهن ; يقال : أدهن ، وداهن ; أي : ترك ما هو عليه وتلبس بغيره .




                                                                                              الخدمات العلمية