الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    109 - ( فصل )

                    وأما المسألة الثانية - التي تنازعوا فيها من التسعير - : فهي أن يحد لأهل السوق حدا لا يتجاوزونه ، مع قيامهم بالواجب . فهذا منع منه الجمهور ، حتى مالك نفسه في المشهور عنه ، ونقل المنع أيضا عن ابن عمر ، وسالم ، والقاسم بن محمد ، وروى أشهب عن مالك - في صاحب السوق يسعر على الجزارين : لحم الضأن بكذا ، ولحم الإبل بكذا ، وإلا أخرجوا من السوق - قال : إذا سعر عليهم قدر ما يرى من شرائهم ، فلا بأس به ، ولكن أخاف أن يقوموا من السوق .

                    واحتج أصحاب هذا القول بأن في هذا مصلحة للناس بالمنع من إغلاء السعر عليهم ، ولا يجبر الناس على البيع ، وإنما يمنعون من البيع بغير السعر الذي يحده ولي الأمر ، على حسب ما يرى من المصلحة فيه للبائع والمشتري .

                    وأما الجمهور : فاحتجوا بما رواه أبو داود وغيره من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : { جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، سعر لنا ، فقال : بل أدعو الله ، ثم جاءه رجل ، فقال : يا رسول الله ، سعر لنا ، فقال : بل الله يرفع ويخفض ، وإني لأرجو أن ألقى الله وليست لأحد عندي مظلمة } قالوا : ولأن إجبار الناس على ذلك ظلم لهم .

                    110 - ( فصل )

                    وأما صفة ذلك عند من جوزه ، فقال ابن حبيب : ينبغي للإمام أن يجمع وجوه أهل سوق ذلك الشيء ، ويحضر غيرهم ، استظهارا على صدقهم ، فيسألهم : كيف يشترون ؟ وكيف يبيعون ؟ فينازلهم إلى ما فيه لهم وللعامة سداد ، حتى يرضوا به ، ولا يجبرهم على التسعير ، ولكن عن رضى .

                    قال أبو الوليد : ووجه هذا : أن به يتوصل إلى معرفة مصالح البائعين والمشترين ، ويجعل للباعة في ذلك من الربح ما يقوم بهم ، ولا يكون فيه إجحاف بالناس ، وإذا سعر عليهم من غير رضا ، بما لا ربح لهم فيه : أدى ذلك إلى فساد الأسعار ، وإخفاء الأقوات ، وإتلاف أموال الناس . [ ص: 217 ]

                    قال شيخنا : فهذا الذي تنازعوا فيه ، وأما إذا امتنع الناس من بيع ما يجب عليهم بيعه : فهنا يؤمرون بالواجب ، ويعاقبون على تركه ، وكذلك كل من وجب عليه أن يبيع بثمن المثل فامتنع .

                    ومن احتج على منع التسعير مطلقا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : { إن الله هو المسعر القابض الباسط ، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال } قيل له : هذه قضية معينة ، وليست لفظا عاما ، وليس فيها أن أحدا امتنع من بيع ما الناس يحتاجون إليه ، ومعلوم أن الشيء إذا قل رغب الناس في المزايدة فيه ، فإذا بذله صاحبه - كما جرت به العادة ، ولكن الناس تزايدوا فيه - فهنا لا يسعر عليهم .

                    وقد ثبت كما في " الصحيحين " : " أن النبي صلى الله عليه وسلم منع من الزيادة على ثمن المثل في عتق الحصة من العبد المشترك ، فقال : { من أعتق شركا له في عبد - وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد - قوم عليه قيمة عدل } ، لا وكس ولا شطط ، فأعطى شركاءه حصصهم ، وعتق عليه العبد فلم يمكن المالك أن يساوم المعتق بالذي يريد ، فإنه لما وجب عليه أن يملك شريكه المعتق نصيبه الذي لم يعتقه لتكميل الحرية في العبد : قدر عوضه بأن يقوم جميع العبد قيمة عدل ، ويعطيه قسطه من القيمة ، فإن حق الشريك في نصف القيمة ، لا في قيمة النصف عند الجمهور . وصار هذا الحديث أصلا في أن ما لا يمكن قسمة عينه ، فإنه يباع ويقسم ثمنه ، إذا طلب أحد الشركاء ذلك ، ويجبر الممتنع على البيع ، وحكى بعض المالكية ذلك إجماعا . وصار أصلا في أن من وجبت عليه المعاوضة أجبر على أن يعاوض بثمن المثل ، ولا بما يريد من الثمن .

                    وصار أصلا في جواز إخراج الشيء من ملك صاحبه قهرا بثمنه ، للمصلحة الراجحة ، كما في الشفعة ، وأصلا في وجوب تكميل العتق بالسراية مهما أمكن . والمقصود : أنه إذا كان الشارع يوجب إخراج الشيء عن ملك مالكه بعوض المثل ، لمصلحة تكميل العتق ، ولم يمكن المالك من المطالبة بالزيادة على القيمة ، فكيف إذا كانت الحاجة بالناس إلى التملك [ ص: 218 ] أعظم ، وهم إليها أضر ؟ مثل حاجة المضطر إلى الطعام والشراب واللباس وغيره .

                    وهذا الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من تقويم الجميع قيمة المثل : هو حقيقة التسعير ، وكذلك سلط الشريك على انتزاع الشقص المشفوع فيه من يد المشتري بثمنه الذي ابتاعه به لا بزيادة عليه ، لأجل مصلحة التكميل لواحد ، فكيف بما هو أعظم من ذلك ؟ فإذا جوز له انتزاعه منه بالثمن الذي وقع عليه العقد ، لا بما شاء المشتري من الثمن ، لأجل هذه المصلحة الجزئية ، فكيف إذا اضطر إلى ما عنده من طعام وشراب ولباس وآلة حرب ؟ وكذلك إذا اضطر الحاج إلى ما عند الناس من آلات السفر وغيرها ، فعلى ولي الأمر أن يجبرهم على ذلك بثمن المثل ، لا بما يريدونه من الثمن ، وحديث العتق أصل في ذلك كله .

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية