الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1784 455 - حدثنا عمرو بن عباس قال: حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا سفيان عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه قال: جاء أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فبايعه على الإسلام، فجاء من الغد محموما فقال: أقلني، فأبى ثلاث مرار، فقال: المدينة كالكير تنفي خبثها، وينصع طيبها.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: " كالكير تنفي خبثها"، وعمرو بن عباس، بالباء الموحدة، وقد مر في فضل استقبال القبلة، وعبد الرحمن هو ابن المهدي، وسفيان هو الثوري.

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه البخاري أيضا في الأحكام، عن أبي نعيم، وأخرجه النسائي في الحج عن محمد بن بشار عن عبد الرحمن به.

                                                                                                                                                                                  قوله: " عن جابر" وقع في الأحكام من وجه آخر، عن ابن المنكدر قال: سمعت جابرا، قوله: " جاء أعرابي" قال الزمخشري في ربيع الأبرار: إنه قيس بن أبي حازم، قيل: هو مشكل؛ لأنه تابعي كبير مشهور صرحوا بأنه هاجر، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم قد مات، وفي الذيل لأبي موسى في الصحابة قيس بن أبي حازم المنقري، فيحتمل أن يكون هو هذا. قوله: " فبايعه على الإسلام" من المبايعة، وهي عبارة عن المعاقدة على الإسلام والمعاهدة، كأن كل واحد منهما باع ما عنده من صاحبه، وأعطاه خلاصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره.

                                                                                                                                                                                  قوله: " محموما" نصب على الحال، من حم الرجل من الحمى، وأحمه الله فهو محموم، وهو من الشواذ. قوله: " أقلني" من الإقالة؛ أي: أقلني من المبايعة على الإسلام. قوله: " فأبى" ؛ أي: امتنع، والضمير فيه يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: " ثلاث مرار" يتعلق بكل واحد من قوله: " فقال "، وقوله: " فأبى" وهو من تنازع العاملين فيه، قوله: " فقال: المدينة" ؛ أي: فقال النبي صلى الله عليه وسلم.. إلى آخره. قوله: " ينصع" بفتح ياء المضارعة وسكون النون وفتح الصاد المهملة وفي آخره عين مهملة، من النصوع وهو الخلوص، والناصع الخالص. قوله: " طيبها" بكسر الطاء وسكون الياء آخر الحروف، وهو مرفوع على أنه فاعل لقوله: " ينصع"؛ لأن النصوع لازم، وهو رواية الكشميهني، وفي رواية الأكثرين: " ينصع" بضم الياء وفتح النون وتشديد الصاد من التنصيع، وقوله: " طيبها" بتشديد الياء، مفعوله بالنصب، هكذا قال الكرماني: من التنصيع، ولكن الظاهر أنه من الإنصاع، من باب الإفعال، وسواء كان من التنصيع أو الإنصاع فهو متعد؛ فلذلك نصب "طيبها"، فافهم. وقال القزاز: قوله: " ينصع" لم أجد له في الطيب وجها، وإنما الكلام يتضوع طيبها أي: يفوح، وقال: ويروى: " ينضخ" بضاد وخاء معجمتين، قال: ويروى بحاء مهملة وهو أقل من النضخ، يعني بالضاد المعجمة، وقال الزمخشري في الفائق: يبضع بضم الياء وسكون الباء الموحدة وكسر الضاد المعجمة، من أبضعه بضاعة إذا دفعها إليه، معناه أن المدينة تعطي طيبها لمن سكنها، ورد عليه الصاغاني بأن [ ص: 246 ] قال: وقد خالف الزمخشري بهذا القول جميع الرواة، وقال ابن الأثير: المشهور بالنون والصاد المهملة.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): لما قال الأعرابي: أقلني، لم لم يقله؟ (قلت): لأنه لا يجوز لمن أسلم أن يترك الإسلام، ولا لمن هاجر إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يترك الهجرة، ويذهب إلى وطنه، وهذا الأعرابي كان ممن هاجر وبايع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على المقام عنده. قال عياض: ويحتمل أن بيعته كانت بعد الفتح، وسقوط الهجرة إليه، وإنما بايع على الإسلام، وطلب الإقالة فلم يقله. وقال ابن بطال: والدليل على أنه لم يرد الارتداد عن الإسلام أنه لم يرد حل ما عقده إلا بموافقة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولو كان خروجه عن المدينة خروجا عن الإسلام لقتله حين ذاك، ولكنه خرج عاصيا، ورأى أنه معذور لما نزل به من الحمى، ولعله لم يعلم أن الهجرة فرض عليه، وكان من الذين قال الله تعالى فيهم: وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): إن المنافقين قد سكنوا المدينة وماتوا فيها ولم تنفهم؟ (قلت): كانت المدينة دارهم أصلا، ولم يسكنوها بالإسلام ولا حباله، وإنما سكنوها لما فيها من أصل معاشهم، ولم يرد صلى الله عليه وسلم بضرب المثل إلا من عقد الإسلام راغبا فيه ثم خبث قلبه.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية