الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ولو كان عليه دين في الصحة وأقر في مرضه بدين أو وديعة كان دين الصحة مقدما على ما أقر به في المرض عندنا ، وقال ابن أبي ليلى رحمه الله ما أقر به في الصحة والمرض من الدين فهو سواء ، وهو قول الشافعي رحمه الله . وحجتهما في ذلك أن الإقرار من جنس التجارة وبسبب المرض إنما يلحقه الحجر عن التبرع لا عن التجارة .

( ألا ترى ) أن سائر تصرفاته من البيع والشراء صحيح في مرضه على الوجه الذي يصح في صحته .

وكذلك إقراره ، وهذا لأن الإقرار إظهار للحق الواجب عليه ، وذلك من أصول حوائجه ، وقد بينا أن حاجته مقدمة في ماله بخلاف التبرع فإنه ليس من حوائجه ولهذا كان معتبرا من ثلث ماله والإقرار يكون معتبرا في جميع ماله والدليل عليه أن الإقرار خبر متمثل بين الصدق والكذب فإنما جعل حجة ليترجح جانب الصدق باعتبار أن عقله ودينه يدعوانه إلى الصدق ويمنعانه من الكذب .

وكذلك شفقته على نفسه وماله تحمله على الصدق وتمنعه من الكذب ، وهذا المعنى لا تختلف بين الصحة والكذب بل يزداد معنى رجحان جانب الصدق والكذب ، ولأن في حال الصحة كان الأمر موسعا عليه فربما يؤثر هواه على ما هو المستحق عليه فيقر بالكذب وبالمرض يضيق الأمر عليه في الخروج عن المستحق عليه فلا يؤثر هواه على صرف المال على ما هو المستحق عليه ، وهو معنى ما قيل إن المرض حال التوبة والإنابة يصدق فيه الكاذب ويبر فيه الفاجر فتنتفي تهمة الكذب عن إقراره ويكون الثابت بالإقرار في هذه الحال كالثابت بالبينة فكان مزاحما لغرماء الصحة .

وحجتنا في ذلك أن أحد الإقرارين وجد في حال الإطلاق والآخر في حال الحجر فيقدم ما وجد في حال الإطلاق على ما وجد في حال الحجر ، وإنما قلنا ذلك لأن بسبب المرض يلحقه الحجر ليتعلق حق الغرماء والورثة بماله حتى لا يجوز تبرعه بشيء إذا كان عليه دين محيطا وبما زاد على الثلث إذا لم يكن عليه دين لتعلق [ ص: 27 ] حق الورثة بماله ، ولأنا نقول بأن الحجر يلحقه عن التبرع ; لأنه تبرع بل ; لأنه مبطل حق الغرماء عن بعض ماله وكما يبطل حقهم عن بعض ماله بالتبرع فكذلك يبطل حقهم بإثبات المزاحمة للمقر له في المرض معهم فكان مجحورا عن الإقرار لحقهم بخلاف سائر التجارات فإنه ليس فيه إبطال حق الغرماء عن شيء مما يتعلق حقهم به فإنه تعلق حقهم بالمالية والتجارة لا سيما المال فليس فيه إبطال شيء من حقهم حتى لو كان البيع بمحاباة لم تصح المحاباة في حقهم لما فيه من إبطال حقهم عن بعض المالية ، ولأنا قد بينا أن حق الغرماء ، وإن كان يتعلق بالموت بماله يستند حكم التعليق إلى أول المرض ; لأنه سبب الموت كالبيع بشرط الخيار إذا أخبر استند حكم الملك إلى أول البيع حتى يستحق المشتري الزوائد فيتبين بهذا أن حق الغرماء الصحة تعلق بماله بأول المرض وصار ماله كالمرهون في حقهم فبعد ذلك إقراره في المرض غير صحيح فيما يرجع إلى إبطال حقهم ; لأن إقرار المقر محمول على الصدق في حقه حتى يكون حجة عليه .

فأما في حق الغير هو محمول على الكذب لكونه متهما في حق الغير ، وهذا بخلاف السبب المعاين من غصب أو استهلاك ; لأنه لا تمكن فيه التهمة فيظهر السبب في حق غرماء الصحة كما يظهر في حق المريض فيكون ذلك بمنزلة الدين الثابت بالبينة في مرضه وقوله بأن المرض دليل على صدقه في إقراره قلنا هذا في حق من ترجح أمر دينه على هواه على أمر دينه فهذه الحال حال المبادرة إلى ما كان يريده ويهواه ما كان قدم بعينه فيها فلما آيس من نفسه آثر من يهواه على ما هو المستحق بماله ، وليس معتادا كندر تمييز إحدى الحالين عن الأخرى فجعلنا الدليل معنى شرعيا ، وهو إذا كان ممكنا من تحصيل مقصوده لطريق الإنساء لا تتمكن التهمة في إقراره ففي حال الصحة كان متمكنا من تحصيل مقصوده لطريق الإنساء فلا تتمكن التهمة في إقراره ، فأما إذا مرض وعليه دين فهو غير متمكن من تحصيل مقصوده ما لإنساء ; لأن الدين مقدم على تبرعه فيحمله ذلك على الإقرار كاذبا لتحصيل مقصوده بهذا الطريق فلهذا لا يصدقه في حق غرماء الصحة .

التالي السابق


الخدمات العلمية