الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                  صفحة جزء
                                                                  ( 95 ) حدثنا عبيد بن غنام الكوفي ، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، ثنا خالد بن مخلد ، حدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز الأنصاري ، حدثني ابن شهاب ، حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن عبد الله بن كعب ، عن أبيه كعب ، قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما هم ببني الأصفر يغزوهم جلى للناس أمرهم ، وكان قلما أراد غزوة إلا ورى بغيرها عنها ، حتى كانت تلك الغزوة فاستقبل حرا شديدا ، وسفرا بعيدا ، وعدوا جديدا ، فكشف للناس الوجه الذي خرج بهم إليهم ليتأهبوا في ذلك أهبة عدوهم ، فتجهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتجهز الناس معه وطفقت أغدو لأتجهز فأرجع ولم أقض شيئا ، حتى فزع الناس ، وقيل إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غاد وخارج إلى وجهه ، فقلت : أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم أدركهم ، وعندي راحلتان ، وما اجتمعت عندي راحلتان قط قبلهما ، فأنا قادر في نفسي ، قوي بعدتي ، فما زلت أغدو بعده فأرجع ولم أقض شيئا ، حتى أمعن القوم وأسرعوا ، وطفقت أغدو للحديث ، ويشغلني الرجال ، فأجمعت القعود حتى سبقني القوم ، وطفقت أغدو فلا أرى إلا رجلا ممن عذر الله جل اسمه أو رجلا مغموصا في النفاق ، ويحزنني ذلك ، فطفقت أعد العذر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جاء ، وأهييء الكلام ، وقدر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 54 ] أن لا يذكرني حتى نزل تبوك ، فقال للناس ، وهو جالس بتبوك : " ما فعل كعب بن مالك ؟ " ، فقام إليه رجل من قومي فقال : شغله برداه ، والنظر في عطفيه ، فتكلم رجل آخر ، فقال : والله يا رسول الله إن علمنا إلا خيرا ، فصمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما قيل إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم زاح عني الباطل ، وما كنت أجمع من الكذب والعذر ، وعرفت أنه لن ينجيني منه إلا الصدق ، فأجمعت صدقه ، وصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، فقدم فغدوت إليه ، فإذا هو في الناس جالس في المسجد ، وكان قلما نظر إلي دعاني ، فقال : " هلم يا كعب ، ما خلفك عني ؟ " ، وتبسم تبسم المغضب ، قلت : يا رسول الله لا عذر لي ، ما كنت قط أقوى ، ولا أيسر مني حين تخلفت عنك ، وقد جاء المخلفون يحلفون فيقبل منهم ويستغفر لهم ، ويكل سرائرهم في ذلك إلى الله - عز وجل - ، فلما صدقه قال : " أما هذا فقد صدق ، فقم حتى يقضي الله فيك ما هو قاض " ، فقمت فقام إلي رجل من بني سلمة فقال : والله ما صنعت شيئا ، والله إن كان لكافيك من ذنبك الذي أذنبت استغفار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لك كما صنع ذلك بغيرك ، فقد قبل منهم عذرهم واستغفر لهم ، فما زالوا يلومونني حتى تمنيت أن أرجع فأكذب نفسي ، ثم قلت لهم : هل قال له هذه المقالة أحد واعتذر بمثل ما اعتذرت به أحد ؟ ، قالوا : نعم ، قلت : من ؟ ، قالوا : هلال بن أمية الواقفي ، وربيعة بن مرارة العمري ، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا ، قد اعتذرا بمثل الذي اعتذرت ، وقيل لهما مثل الذي قيل لك ، ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كلامنا ، فطفقنا نغدو في الناس ولا يكلمنا أحد كلمة ، ولا يسلم علينا ولا يرد علينا سلامنا ، حتى إذا دنت أربعون ليلة جاءنا رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن اعتزلوا نساءكم ، فأما هلال بن أمية فجاءت امرأته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت : إنه شيخ ضعيف [ ص: 55 ] بصره ، فهل تكره أن أصنع له طعاما ؟ ، قال : " لا ، ولكن لا يقربنك " ، قالت : والله ما به من حركة إلى شيء ، والله ما زال يبكي إذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا ، قال : فقال لي أهلي : لو استأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما استأذنت امرأة هلال بن أمية أن تخدمه ، قال : فقلت : والله ما أستأذنه فيها ، وما أدري ما يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن استأذنته ، وهو شيخ كبير وأنا شاب ، فقلت لامرأتي : الحقي بأهلك حتى يقضي الله ما هو قاض ، وطفقنا نمشي في الناس ولا يكلمنا أحد ، ولا يرد علينا سلام ، فأقبلت حتى تسورت جدارا لابن عمي في حائطه ، فسلمت عليه فما حرك شفتيه يرد علي السلام ، فقلت : أنشدك بالله ، أتعلم أني أحب الله ورسوله ؟ ، فما كلمني كلمة ، ثم عدت فلم يكلمني ، ثم عدت فلم يكلمني ، حتى إذا كملت الرابعة أو الثالثة ، قال : الله ورسوله أعلم ، فرجعت وإني لأمشي في السوق وإذا الناس يشيرون إلي بأيديهم ، فإذا نبطي من نبط الشام يسأل عني ، فجعلوا يشيرون له إلي حتى جاءني فدفع إلي كتابا من بعض قومي بالشام : قد بلغنا ما صنع بك صاحبك وجفوته عنك ، فالحق بنا ، وإن الله - عز وجل - لم يجعلك بدار هوان ولا دار مضيعة نواسك في أموالنا ، قال : قلت : إنا لله ، في طمع أهل الكفر ، فتيممت له تنورا فسجرته لها ، فوالله أنا لعلى تلك الحال التي ذكر الله - تعالى - قد ضاقت علينا الأرض بما رحبت وضاقت علينا أنفسنا ، صباحية ليلة منذ نهي عن كلامنا أنزلت التوبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم آذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علينا حين صلى الفجر ، فذهب الناس يبشروننا ، وركض رجل إلى فرس ، أو سعى ساع من أسلم فأوفى على الجبل ، وكان الصوت أسرع من الفرس ، فنادى : يا كعب بن مالك أبشر ، فخررت ساجدا ، وعرفت أن قد جاء الفرج ، فلما جاءني الذي سمعت صوته دفعت له ثوبين بشراه ، والله ما أملك يومئذ ثوبين غيرهما ، واستعرت ثوبين [ ص: 56 ] فخرجت قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بتوبة الله علي ، حتى دخلت المسجد ، فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني ، ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره ، فكان كعب يعرف ذلك لطلحة ، ثم أقبلت حتى وقفت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأن وجهه قطعة قمر ، وكان إذا سر استنار وجهه لذلك ، فناداني : " هلم يا كعب ، أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك " ، قال : قلت : أمن عند الله أم من عندك ؟ ، قال : " لا ، بل من عند الله ، إنكم صدقتم الله فصدقكم " ، قال : قلت : فإن من توبتي إليه أن أخرج من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أمسك عليك بعض مالك " ، قلت : أمسك سهمي بخيبر ، قال كعب : فوالله ما أبلى الله رجلا في صدق الحديث ما أبلاني .

                                                                  التالي السابق


                                                                  الخدمات العلمية