الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      وقال سعيد بن عبد العزيز ، وغيره : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخل في عهده يوم الحديبية خزاعة .

                                                                                      وقال الوليد بن مسلم : أخبرني من سمع عمرو بن دينار ، عن ابن عمر ، قال : كانت خزاعة حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونفاثة حلف أبي سفيان . فعدت نفاثة على خزاعة ، فأمدتها قريش . فلم يغز رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا حتى بعث إليهم ضمرة ، فخيرهم بين إحدى ثلاث : أن يدوا قتلى خزاعة ، وبين أن يبرأوا من حلف نفاثة ، أو ينبذ إليهم على سواء . قالوا : [ ص: 159 ] ننبذ على سواء . فلما سار ندمت قريش ، وأرسلت أبا سفيان يسأل تجديد العهد .

                                                                                      وقال ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة ، قال : كانت بين نفاثة من بني الديل ، وبين بني كعب ، حرب . فأعانت قريش وبنو كنانة بني نفاثة على بني كعب . فنكثوا العهد إلا بنو مدلج ، فإنهم وفوا بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فذكر القصة ، وشعر عمرو بن سالم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا نصرت إن لم أنصر بني كعب مما أنصر منه نفسي " فأنشأت سحابة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن هذه السحابة تستهل بنصر بني كعب ، أبصروا أبا سفيان فإنه قادم عليكم يلتمس تجديد العهد والزيادة في المدة " .

                                                                                      فأقبل أبو سفيان ، فقال : يا محمد جدد العهد وزدنا في المدة . فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أو لذلك قدمت ؟ هل كان من حدث قبلكم ؟ " قال : معاذ الله . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فنحن على عهدنا وصلحنا " . ثم ذكر ذهابه إلى أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وأنه قال له : أنت أكبر قريش فأجر بينها . قال : صدقت إني كذلك فصاح : ألا إني قد أجرت بين الناس ، وما أظن أن يرد جواري ولا يخفر بي . قال : أنت تقول ذاك يا أبا حنظلة ؟ ثم خرج . فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين أدبر : " اللهم سد على أبصارهم وأسماعهم فلا يروني إلا بغتة " فانطلق أبو سفيان حتى قدم مكة فحدث قومه ، فقالوا : رضيت بالباطل وجئتنا بما لا يغني عنا شيئا ، وإنما لعب بك علي .

                                                                                      وأغبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاز ، مخفيا لذلك . فدخل أبو بكر على ابنته ، فرأى شيئا من جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنكر وقال : أين يريد [ ص: 160 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت عائشة : تجهز ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم غاز قومك ، قد غضب لبني كعب . فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشفقت عائشة أن يسقط أبوها بما أخبرته قبل أن يذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأشارت إلى أبيها بعينها ، فسكت . فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة يتحدث مع أبي بكر ، ثم قال : " تجهزت يا أبا بكر " ؟ قال : لماذا يا رسول الله ؟ قال : " لغزو قريش ، فإنهم قد غدروا ونقضوا العهد ، وإنا قوم غازون إن شاء الله " .

                                                                                      وأذن في الناس بالغزو ، فكتب حاطب إلى قريش فذكر حديثه وقال : ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألفا من المهاجرين ، والأنصار ، وأسلم ، وغفار ، ومزينة ، وجهينة ، وبني سليم ، وقادوا الخيول حتى نزلوا بمر الظهران ، ولم تعلم بهم قريش ، قال : فبعثوا حكيم بن حزام وأبا سفيان وقالوا : خذوا لنا جوارا أو آذنونا بالحرب . فخرجا فلقيا بديل بن ورقاء فاستصحباه ، فخرج معهما حتى إذا كانوا بالأراك بمكة ، وذلك عشاء ، رأوا الفساطيط والعسكر ، وسمعوا صهيل الخيل ففزعوا . فقالوا : هؤلاء بنو كعب جاشت بهم الحرب . قال بديل : هؤلاء أكثر من بني كعب ، ما بلغ تأليبها هذا .

                                                                                      وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث بين يديه خيلا لا يتركون أحدا يمضي . فلما دخل أبو سفيان وأصحابه عسكر المسلمين أخذتهم الخيل تحت الليل وأتوا بهم . فقام عمر إلى أبي سفيان فوجأ عنقه ، والتزمه القوم وخرجوا به ليدخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم به ، فحبسه الحرس أن يخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخاف القتل ، وكان العباس بن عبد المطلب خالصة له في الجاهلية ، فنادى بأعلى صوته : ألا تأمر بي إلى عباس ؟ فأتاه عباس فدفع عنه ، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبضه إليه . فركب به تحت الليل ، فسار به في عسكر القوم حتى أبصره أجمع . وكان عمر قال له حين وجأه : لا تدن من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تموت . فاستغاث بالعباس وقال : إني مقتول . [ ص: 161 ] فمنعه من الناس . فلما رأى كثرة الجيش ، قال : لم أر كالليلة جمعا لقوم . فخلصه عباس من أيديهم ، وقال : إنك مقتول إن لم تسلم وتشهد أن محمدا رسول الله ، فجعل يريد أن يقول الذي يأمره به عباس ، ولا ينطلق به لسانه وبات معه .

                                                                                      وأما حكيم وبديل فدخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلما . وجعل يستخبرهما عن أهل مكة .

                                                                                      فلما نودي بالفجر تحسس القوم ، ففزع أبو سفيان وقال : يا عباس ، ما يريدون ؟ قال : سمعوا النداء بالصلاة فتيسروا لحضور النبي صلى الله عليه وسلم فلما أبصرهم أبو سفيان يمرون إلى الصلاة ، وأبصرهم يركعون ويسجدون إذا سجد النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : يا عباس ، ما يأمرهم بشيء إلا فعلوه ؟! فقال : لو نهاهم عن الطعام والشراب لأطاعوه . فقال : يا عباس ، فكلمه في قومك ، هل عنده من عفو عنهم ؟ فانطلق عباس بأبي سفيان حتى أدخله على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله هذا أبو سفيان ، فقال أبو سفيان : يا محمد إني قد استنصرت بإلهي واستنصرت إلهك ، فوالله ما لقيتك من مرة إلا ظهرت علي ، فلو كان إلهي محقا وإلهك باطلا ظهرت عليك ، فأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .

                                                                                      وقال عباس : يا رسول الله إني أحب أن تأذن لي إلى قومك فأنذرهم ما نزل بهم ، وأدعوهم إلى الله ورسوله . فأذن له : قال : كيف أقول لهم ؟ قال : " من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وكف يده ، فهو آمن ، ومن جلس عند الكعبة ووضع سلاحه فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن " قال : يا رسول الله ، أبو سفيان ابن عمنا ، فأحب أن يرجع معي ، فلو خصصته بمعروف . فقال : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن . فجعل أبو سفيان يستفهمه . ودار أبي سفيان بأعلى مكة . وقال : من دخل دارك يا حكيم فهو آمن . ودار حكيم [ ص: 162 ] في أسفل مكة .

                                                                                      وحمل النبي صلى الله عليه وسلم العباس على بغلته البيضاء التي أهداها إليه دحية الكلبي ، فانطلق العباس وأبو سفيان قد أردفه . ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم في إثره ، فقال : أدركوا العباس فردوه علي . وحدثهم بالذي خاف عليه . فأدركه الرسول ، فكره عباس الرجوع ، وقال : أترهب يا رسول الله أن يرجع أبو سفيان راغبا في قلة الناس فيكفر بعد إسلامه ؟ فقال : احبسه فحبسه . فقال أبو سفيان : غدرا يا بني هاشم ؟ فقال عباس : إنا لسنا بغدر ، ولكن لي إليك بعض الحاجة . قال : وما هي ، فأقضيها لك ؟ قال : إنما نفاذها حين يقدم عليك خالد بن الوليد والزبير بن العوام . فوقف عباس بالمضيق دون الأراك ، وقد وعى منه أبو سفيان حديثه .

                                                                                      ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الخيل بعضها على إثر بعض ، وقسم الخيل شطرين ، فبعث الزبير في خيل عظيمة . فلما مروا بأبي سفيان قال للعباس : من هذا ؟ قال : الزبير . وردفه خالد بن الوليد بالجيش من أسلم وغفار وقضاعة ، فقال أبو سفيان . أهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عباس ؟ قال : لا ، ولكن هذا خالد بن الوليد ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة بين يديه في كتيبة الأنصار ، فقال : اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحل الحرمة . ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبة الإيمان من المهاجرين والأنصار .

                                                                                      فلما رأى أبو سفيان وجوها كثيرة لا يعرفها قال : يا رسول الله ، اخترت هذه الوجوه على قومك ؟ قال : أنت فعلت ذلك وقومك . إن هؤلاء صدقوني إذ كذبتموني ، ونصروني إذ أخرجتموني ، ومع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ الأقرع بن حابس ، وعباس بن مرداس ، وعيينة بن بدر ، فلما أبصرهم حول النبي صلى الله عليه وسلم قال : من هؤلاء يا عباس ؟ قال : هذه كتيبة النبي صلى الله عليه وسلم ، ومع هذه الموت الأحمر ، هؤلاء المهاجرون والأنصار ، قال : [ ص: 163 ] امض يا عباس ، فلم أر كاليوم جنودا قط ولا جماعة ، وسار الزبير بالناس حتى إذا وقف بالحجون ، واندفع خالد حتى دخل من أسفل مكة . فلقيته بنو بكر فقاتلهم فهزمهم ، وقتل منهم قريبا من عشرين ، ومن هذيل ثلاثة أو أربعة ، وهزموا وقتلوا بالحزورة ، حتى دخلوا الدور ، وارتفعت طائفة منهم على الجبل على الخندمة ، واتبعهم المسلمون بالسيوف .

                                                                                      ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخريات الناس ، ونادى مناد : من أغلق عليه داره وكف يده فإنه آمن . وكان النبي صلى الله عليه وسلم نازلا بذي طوى ، فقال : " كيف قال حسان " ؟ فقال رجل من أصحابه : قال :

                                                                                      عدمت بنيتي إن لم تروها تثير النقع من كنفي كداء فأمرهم فأدخلوا الخيل من حيث قال حسان . فأدخلت من ذي طوى من أسفل مكة . واستحر القتل ببني بكر . فأحل الله له مكة ساعة من نهار ، وذلك قوله تعالى : ( لا أقسم بهذا البلد ( 1 ) وأنت حل بهذا البلد ( 2 ) ) [ البلد ] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أحلت الحرمة لأحد قبلي ولا بعدي ، ولا أحلت لي إلا ساعة من نهار .

                                                                                      ونادى أبو سفيان بمكة : أسلموا تسلموا . فكفهم الله عن عباس .

                                                                                      فأقبلت هند فأخذت بلحية أبي سفيان ، ثم نادت : يا آل غالب اقتلوا الشيخ الأحمق . قال : أرسلي لحيتي ، فأقسم لئن أنت لم تسلمي لتضربن عنقك ، ويلك جاءنا بالحق ادخلي بيتك واسكتي .

                                                                                      ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف سبعا على راحلته .

                                                                                      وفر صفوان بن أمية عامدا للبحر ، وفر عكرمة عامدا لليمن ، وأقبل عمير بن وهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله آمن صفوان فقد هرب ، وقد خشيت أن يهلك نفسه ، فأرسلني إليه بأمان فإنك قد آمنت [ ص: 164 ] الأحمر والأسود ، فقال : أدركه فهو آمن . فطلبه عمير فأدركه ودعاه فقال : قد آمنك رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال صفوان : والله لا أوقن لك حتى أرى علامة بأماني أعرفها . فرجع فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم برد حبرة كان معتجرا به حين دخل مكة ، فأقبل به عمير ، فقال صفوان : يا رسول الله ، أعطيتني ما يقول هذا من الأمان ؟ قال : نعم . قال : اجعل لي شهرا ، قال : لك شهران ، لعل الله أن يهديك .

                                                                                      واستأذنت أم حكيم بنت الحارث بن هشام وهي يومئذ مسلمة ، وهي تحت عكرمة بن أبي جهل ، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب زوجها ، فأذن لها وآمنه ، فخرجت بعبد لها رومي فأرادها عن نفسها ، فلم تزل تمنيه وتقرب له حتى قدمت على ناس من عك فاستعانتهم عليه فأوثقوه ، فأدركت زوجها ببعض تهامة وقد ركب في السفينة ، فلما جلس فيها نادى باللات والعزى . فقال أصحاب السفينة : لا يجوز هاهنا من دعاء بشيء إلا الله وحده مخلصا ، فقال عكرمة : والله لئن كان في البحر ، إنه لفي البر وحده ، أقسم بالله لأرجعن إلى محمد ، فرجع عكرمة مع امرأته ، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعه ، وقبل منه .

                                                                                      ودخل رجل من هذيل على امرأته ، فلامته وعيرته بالفرار ، فقال :

                                                                                      وأنت لو رأيتنا بالخندمه 206 إذ فر صفوان وفر عكرمه     قد لحقتهم السيوف المسلمه
                                                                                      يقطعن كل ساعد وجمجمه     لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه
                                                                                      وكان دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة في رمضان . واستعار النبي صلى الله عليه وسلم من صفوان فأعطاه فيما زعموا مائة درع وأداتها ، وكان أكثر شيء سلاحا .

                                                                                      وأقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بضع عشرة ليلة .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية