الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          المسألة الرابعة

          اختلفوا في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا صلاة إلا بطهور " [1] ، " ولا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " [2] ، " ولا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل " [3] ، " ولا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل " [4] ونحوه .

          [ ص: 17 ] فمذهب الكل أنه لا إجمال فيه ، خلافا للقاضي أبي بكر وأبي عبد الله البصري فإنهما قالا بإجماله لأن حرف النفي دخل على هذه المسميات مع تحققها ، فلا بد من إضمار حكم يلحق ، وتمام تقريره كما مر في المسألة المتقدمة .

          والمختار : أنه لا إجمال في هذه الصور ، لأنه لا يخلو إما أن يقال بأن الشارع له في هذه الأسماء عرف أو لا عرف له فيها ، بل هي منزلة على الوضع اللغوي .

          فإن قيل بالأول ، فيجب تنزيل كلام الشارع على عرفه ، إذ الغالب منه أنه إنما يناطقنا فيما له فيه عرف بعرفه ، فيكون لفظه منزلا على نفي الحقيقة الشرعية من هذه الأمور ونفي الحقيقة الشرعية ممكن .

          والأصل حمل الكلام على ما هو حقيقة فيه .

          وعلى هذا ، فلا إجمال ، وإن كان مسمى هذه الأمور بالوضع اللغوي غير منفي .

          وإن قيل بالثاني فالإجمال أيضا إنما يتحقق إن لو لم يكن اللفظ ظاهرا بعرف استعمال أهل اللغة قبل ورود الشرع في مثل هذه الألفاظ في نفي الفائدة والجدوى وليس كذلك .

          وبيانه أن المتبادر إلى الفهم من نفي كل فعل كان متحقق الوجود إنما هو نفي فائدته وجدواه .

          ومنه قولهم : " لا علم إلا ما نفع ، ولا كلام إلا ما أفاد ، ولا حكم إلا لله ، ولا طاعة إلا له ، ولا بلد إلا بسلطان ، " إلى غير ذلك .

          وإذا كان النفي محمولا على نفي الفائدة والجدوى فلا إجمال فيه .

          وإن سلمنا أنه لا عرف للشارع ، ولا لأهل اللغة في ذلك ، وأنه لا بد من الإضمار غير أن الاتفاق واقع على أنه لا خروج للمضمر هاهنا عن الصحة والكمال ، وعند ذلك فيجب اعتقاد ظهوره في نفي الصحة والكمال لوجهين :

          الأول : أنه أقرب إلى موافقة دلالة اللفظ على النفي لأنه إذا قال : " لا صلاة ، لا صوم إلا بكذا " فقد دل على نفي أصل الفعل بدلالة المطابقة ، وعلى صفاته بدلالة الالتزام ، فإذا تعذر العمل بدلالة المطابقة تعين العمل بدلالة الالتزام تقليلا لمخالفة الدليل .

          [ ص: 18 ] الثاني : أنه إذا كان اللفظ قد دل على نفي العمل وعدمه ، فيجب عند تعذر حمل اللفظ على حقيقته حمله على أقرب المجازات الشبيهة به ، ولا يخفى أن مشابهة الفعل الذي ليس بصحيح ولا كامل للفعل المعدوم أكثر من مشابهة الفعل الذي نفي عنه أحد الأمرين دون الآخر ، فكان الحمل عليه أولى .

          فإن قيل : ما ذكرتموه معارض من وجهين :

          الأول : أنه يلزم منه الزيادة في الإضمار والتجوز المخالف للأصل .

          الثاني : أن حمله على نفي الكمال دون الصحة مستيقن ، من حيث إنه يلزم من نفي الصحة نفي الكمال ، ولا عكس ، وإذا تقابلت الاحتمالات لزم الإجمال .

          قلنا : بل الترجيح لما ذكرناه ؛ لأنه لا يلزم منه تعطيل دلالة اللفظ ، بخلاف ما ذكرتموه ، ولأنه على وفق النفي الأصلي ، وما ذكرتموه على خلافه ، فكان ما ذكرناه أولى .

          وعلى هذا ، فقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا عمل إلا بنية ، وإنما الأعمال بالنيات " .

          وإن لم يكن للشارع فيه عرف ، كما في الصلاة والصوم ونحوهما ، فعرف أهل اللغة في نفيه نفي الفائدة والجدوى ، كما قررناه فيما تقدم ، فلا إجمال فيه أيضا ، خلافا لأبي الحسين البصري وأبي عبد الله البصري وغيرهما من المعتزلة .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية