الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ومنها أن لا يكون مجهولا جهالة لا يمكن إزالتها ، فإن كان لم تجز الوصية له ; لأن الجهالة التي لا يمكن استدراكها تمنع من تسليم الموصى به إلى الموصى له ، فلا تفيد الوصية وعلى هذا يخرج ما إذا أوصى بثلث ماله لرجل من الناس إنه لا يصح بلا خلاف ، ولو أوصى لأحد هذين الرجلين لا يصح في قول أبي حنيفة رضي الله عنه .

                                                                                                                                وعندهما يصح غير أن عند أبي يوسف - رحمه الله - الوصية تكون بينهما نصفين ، وعند محمد - رحمه الله - الخيار إلى الوارث يعطى أيهما شاء .

                                                                                                                                ( وجه ) قول محمد أن الإيجاب وقع صحيحا ; لأن أحدهما وإن كان مجهولا ، ولكن هذه جهالة تمكن إزالتها ألا ترى أن الموصي لو عين أحدهما حال حياته لتعين ، ثم إن محمدا يقول : لما مات عجز عن التعيين بنفسه ، فيقوم وارثه مقامه في التعيين وأبو يوسف يقول : لما مات قبل التعيين شاعت الوصية لهما ، وليس أحدهما بأولى من الآخر كمن أعتق أحد عبديه ، ثم مات قبل البيان إن العتق يشيع فيهما جميعا فيعتق من كل واحد منهما نصفه كذا ههنا يكون لكل واحد منهما نصف الوصية ولأبي حنيفة أن الوصية تمليك عند الموت ، فتستدعي كون الموصى له معلوما عند الموت والموصى له عند الموت مجهول ، فلم تصح الوصية من الأصل ، كما لو أوصى لواحد من الناس فلا يمكن القول بالشيوع ولا يقام الوارث مقام الموصي في البيان ; لأن ذلك حكم الإيجاب الصحيح .

                                                                                                                                ولم يصح إلا أن الموصي لو بين الوصية في أحدهما حال حياته صحت ; لأن البيان إنشاء الوصية لأحدهما فكان وصية مستأنفة لأحدهما عينا ، وإنها صحيحة .

                                                                                                                                ولو كان عبدان فأوصى بأرفعهما لرجل وبأخسهما لآخر ، ثم مات الموصي ، ثم مات أحد العبدين ، ولا يدرى أيهما هو فالوصية بطلت في قول أبي حنيفة وزفر - رحمهما الله - اجتمعا على أخذ الباقي أو لم يجتمعا .

                                                                                                                                وقال أبو يوسف رحمه الله : إن اجتمعا على أخذ الباقي ، فهو بينهما نصفان ، وإن لم يجتمعا على أخذه ، فلا شيء لهما .

                                                                                                                                وروي عن أبي يوسف أنه بينهما نصفان اجتمعا ، أو لم يجتمعا ، وعلى هذا يخرج الوصية لقوم لا يحصون أنها باطلة إذا لم يكن في اللفظ ما ينبئ عن الحاجة ، وإن كان فيه ما ينبئ عن الحاجة ، فالوصية جائزة ; لأنهم إذا كانوا لا يحصون .

                                                                                                                                ولم يذكر في اللفظ ما يدل على الحاجة ، وقعت الوصية تمليكا منهم ، وهم مجهولون ، والتمليك من المجهول جهالة لا يمكن إزالتها لا يصح ، ثم اختلف في تفسير الإحصاء قال أبو يوسف إن كانوا لا يحصون إلا بكتاب أو حساب فهم لا يحصون .

                                                                                                                                وقال محمد إن كانوا أكثر من مائة فهم لا يحصون ، وقيل إن كانوا بحيث لا يحصيهم محص حتى يولد منهم مولود ، ويموت منهم ميت ، فهم لا يحصون ، وقيل يفوض إلى رأي القاضي ، وإن كان في اللفظ ما يدل على الحاجة كان وصيته بالصدقة ، وهي إخراج المال إلى الله سبحانه وتعالى ، والله سبحانه وتعالى ، واحد معلوم فصحت [ ص: 343 ] الوصية ، ثم إذا صحت الوصية فالأفضل للوصي أن يعطي الثلث لمن يقرب إليهم منهم ، فإن جعله في ، واحد فما زاد جاز عند أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، وعند محمد لا يجوز إلا أن يعطي اثنين منهم فصاعدا ، ولا يجوز أن يعطي واحدا إلا نصف الوصية ، وبيان هذه الجملة في مسائل إذا أوصى بثلث ماله للمسلمين لم تصح ; لأن المسلمين لا يحصون ، وليس في لفظ المسلمين ما ينبئ عن الحاجة فوقعت الوصية تمليكا من مجهول ، فلم تصح .

                                                                                                                                ولو أوصى لفقراء المسلمين ، أو لمساكينهم صحت الوصية ; لأنهم ، وإن كانوا لا يحصون لكن عندهم اسم الفقير .

                                                                                                                                والمسكين ينبئ عن الحاجة ، فكانت الوصية لهم تقربا إلى الله تبارك ، وتعالى طلبا لمرضاته لا لمرضاة الفقير ، فيقع المال لله تعالى عز وجل ، ثم الفقراء يتملكون بتمليك الله تعالى منهم ، والله سبحانه وتعالى عز شأنه واحد معلوم ; ولذا كان إيجاب الصدقة من الله سبحانه ، وتعالى من الأغنياء على الفقراء صحيحا ، وإن كانوا لا يحصون ، وإذا صحت الوصية ، فلو صرف الوصي جميع الثلث إلى فقير واحد جاز عند أبي حنيفة وأبي يوسف .

                                                                                                                                وقال محمد : لا يجوز إلا أن يعطي منهم اثنين فصاعدا ، ولا يجوز أن يعطي واحدا منهم إلا نصف الثلث وجه قول محمد إن الفقراء اسم جمع ، وأقل الجمع الصحيح ثلاثة إلا أنه أقام الدليل على أن الاثنين في باب الوصية يقومان مقام الثلاث ; لأن الوصية أخت الميراث .

                                                                                                                                والله تعالى أقام الثنتين من البنات مقام الثلاث منهن في استحقاق الثلثين .

                                                                                                                                وكذا الاثنان من الإخوة والأخوات يقومان مقام الثلاث في نقص حق الأم من الثلث إلى السدس ، ولا دليل على قيام الواحد مقام الجماعة مع ما أن الجمع مأخوذ من الاجتماع ، وأقل ما يحصل به الاجتماع اثنان ، ومراعاة معنى الاسم ، واجب ما أمكن ، ولهما أن هذا النوع من الوصية ، وصية بالصدقة ، وهي إلزام المال حقا لله تبارك وتعالى ، وجنس الفقراء مصرف ما يجب لله عز وجل من الحقوق المالية ، فكان ذكر الفقراء لبيان المصرف لا لإيجاب الحق لهم ، فيجب الحق لله تبارك وتعالى ، ثم يصرف إلى من ظهر رضا الله سبحانه وتعالى بصرف حقه المآل إليه ، وقد حصل بصرفه إلى ، فقير واحد ; ولهذا جاز صرف ما وجب من الصدقات الواجبة بإيجاب الله عز وجل إلى فقير واحد ، وإن كان المذكور بلفظ الجماعة بقوله تبارك وتعالى { إنما الصدقات للفقراء } .

                                                                                                                                وقد خرج الجواب عما ذكره محمد - رحمه الله - على أن مراعاة معنى الجمع إنما تجب عند الإمكان ، فأما عند التعذر ، فلا بل يحمل اللفظ على مطلق الجنس كما في قوله ، والله لا أتزوج النساء ، وقوله إن كلمت بني آدم ، أو إن اشتريت العبيد إنه يحمل على الجنس ، ولا يراعى فيه معنى الجمع حتى يحنث بوجود الفعل منه في واحد من الجنس ، وههنا لا يمكن اعتبار معنى الجمع ; لأن ذلك مما لا غاية له ، ولا نهاية ، فيحمل على الجنس ، بخلاف ما إذا أوصى لمواليه ، وله مولى واحد أنه لا يصرف كل الثلث إليه بل نصفه ; لأن هناك ما التزم المال حقا لله تعالى عز وجل بل ملكه للموالي ، وهو اسم جمع ، فلا بد من اعتباره .

                                                                                                                                وكذا ذلك الجمع له غاية ونهاية ، فكان اعتبار معنى الجمع ممكنا ، فلا ضرورة إلى الحمل على الجنس ، بخلاف جمع الفقراء .

                                                                                                                                وكذلك لو أوصى لفقراء بني فلان دون أغنيائهم ، وبنو فلان قبيلة لا تحصى ، ولا يحصى فقراؤهم ، فالوصية جائزة لما قلنا بل أولى ; لأنه لما صحت الوصية لفقراء المسلمين مع كثرتهم ، فلأن تصح لفقراء القبيلة أولى .

                                                                                                                                فإن لم يقل لفقرائهم ، ولكنه أوصى لبني فلان ، ولم يزد عليه ، فهذا لا يخلو من أحد ، وجهين : ( إما ) إن كان فلان أبا قبيلة .

                                                                                                                                ( وإما ) إن لم يكن أبا قبيلة بل هو رجل من الناس يعرف بأبي فلان فإن كان أبا قبيلة مثل تميم ، وأسد ، ووائل ، فإن كان بنوه يحصون ; جازت الوصية لهم ; لأنهم إذا كانوا يحصون ، فقد قصد الموصي تمليك المال منهم لا الإخراج إلى الله تعالى ، فكان الموصى له بالثلث معلوما ، فتصح الوصية له ، كما لو أوصى لأغنياء بني فلان ، وهم يحصون ، ويدخل فيه الذكور والإناث ; لأن الإضافة إلى أب القبيلة إضافة النسبة كالإضافة إلى القبيلة ألا يرى أنه يصح أن يقال هذه المرأة من بني تميم ، كما يصح أن يقال هذا الرجل من بني تميم ، فيدخل فيه كل من ينتسب إلى فلان ذكرا كان أو أنثى غنيا كان أو فقيرا ; لأنه ليس في اللفظ ما ينبئ عن الحاجة ، وصار ، كما لو أوصى لقبيلة فلان ، ولو كان لبني فلان موالي عتاقة يدخلون في الوصية ، وكذا موالي مواليهم وحلفائهم وعبيدهم .

                                                                                                                                وكذا لو كان لهم موالي الموالاة لما ذكرنا أن المراد من قوله بني فلان إذا كان فلان أبا قبيلة هو القبيلة لا أبناؤه حقيقة ، فكان المراد منه المنتسبين إلى هذه القبيلة ، والمنتمون إليهم ، والحلفاء ، والموالي [ ص: 344 ] ينتسبون إلى القبيلة ، وينتمون إليهم في العرف ، والشرع قال : عليه الصلاة والسلام { موالي القوم منهم } .

                                                                                                                                وفي رواية { موالي القوم من أنفسهم ، وحليفهم منهم } .

                                                                                                                                وروي أنه قال في جملة ذلك : وعبيدهم منهم ; ولأن بني فلان إذا كانوا لا يحصون سقط اعتبار حقيقة البنوة ، فصار عبارة عمن يقع بهم لهم التناصر ، والموالي يقع بهم لهم التناصر .

                                                                                                                                وكذا الحليف ، والعديد إذ الحليف هو الذي حلف للقبيلة أنه ينصرهم ، ويذب عنهم كما يذب عن نفسه ، وهم حلفوا له كذلك ، والعديد هو الذي يلحق بهم من غير حلف .

                                                                                                                                ولو أوصى لقبيلة فلان دخل فيه الموالي ; لأن المراد من القبيلة الذين ينسبون إليه والموالي ينسبون إليه هذا إذا كانوا يحصون ، فإن كانوا لا يحصون لا تجوز الوصية لما قلنا في الوصية لبني فلان ، بخلاف ما إذا أوصى لبني فلان ، وهم يحصون ، وفلان أب خاص لهم ، وليس بأبي قبيلة حيث كان الثلث لبني صلبه ، ولا يدخل فيه مواليه ; لأنه ما جرى العرف هناك أنهم يريدون بهذه اللفظة المنتسب إليهم ، فبقيت اللفظة محمولة على الحقيقة ; ولهذا لا يدخل في الوصية بنو بنيه ، والدليل على التفرقة بين الفصلين أن زيدا لو أعتق عبدا لا يقول المعتق أنا من بني زيد إذا كان زيد أبا خاصا ، وإن كان زيد أبا قبيلة يقول : المعتق أنا من بني زيد هذا هو المتعارف عندهم ، ولأن بني فلان إذا كانوا لا يحصون لم تصح الوصية ; لأن الوصية ، وقعت لهم تمليك المال منهم ، وهم مجهولون ، ولا يمكن أن يجعل هذا ، وصية بالصدقة ; لأنه ليس في لفظ الابن ما ينبئ عن الحاجة لغة ، فلا يصح ، كما لو أوصى للمسلمين أنه لا يصح لجهالة الملك منه ، ولم يجعل وصية بالصدقة لما قلنا كذا هذا ، وإن كان أبا نسب ، وهو رجل من الناس يعرف كابن أبي ليلى ، وابن سيرين ، ونحو ذلك .

                                                                                                                                فإن كانوا كلهم ذكورا دخلوا في الوصية ; لأن حقيقة اسم البنين للذكور ; لأنه جمع الابن ، فيجب العمل بالحقيقة ما أمكن ، وقد أمكن ، وإن كانوا كلهم إناثا لا يدخل فيه ، واحدة منهن ; لأن اللفظ لا يتناولهن عند انفرادهن ، وإن كانوا ذكورا وإناثا ، فقد اختلف فيه قال أبو حنيفة ، وأبو يوسف رضي الله عنهم : الوصية للذكور دون الإناث .

                                                                                                                                وقال محمد : عليه الرحمة يدخل فيه الذكور والإناث ، وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة رواه يوسف بن خالد السمتي ، وذكر القدوري في شرحه مختصر الكرخي الخلاف بين أبي حنيفة ، وصاحبيه .

                                                                                                                                ( وجه ) قول محمد - رحمه الله - إن الذكور مع الإناث إذا اجتمعا غلب الذكور الإناث ، ويتناول اسم الذكور الذكور والإناث ، وإن كان لا يتناولهن حالة الانفراد ; ولهذا تتناول الخطابات التي في القرآن العظيم باسم الجمع الذكور ، والإناث جميعا ، فكذا في الوصية ، ولهما اعتبار الحقيقة ، وهو أن البنين جمع ابن ، والابن اسم للذكر حقيقة .

                                                                                                                                وكذا البنون ، فلا يتناول إلا الذكور ، ولهذا لم يتناولهن حالة الانفراد ، فكذا حالة الاجتماع ، وهكذا نقول في خطابات القرآن العظيم إن خطاب الذكور لا يتناول الإناث بصيغته بل بدليل زائد ، والدليل عليه ما روي أن النساء شكون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن يا رسول الله إن الله سبحانه ، وتعالى يخاطب الرجال دوننا ، فنزل قوله تبارك وتعالى { إن المسلمين والمسلمات } الآية ، فلو كان خطاب الرجال يتناولهن لم يكن لشكايتهن معنى ، بخلاف ما إذا كان فلان أبا قبيلة أو بطن أو فخذ ; لأن الإضافة إلى القبيلة ، والبطن والفخذ لا يراد بها الأعيان .

                                                                                                                                وإنما يراد بها الإنسان ، وهي أن يكون منسوبا إلى القبيلة ، والبطن والفخذ والذكر والأنثى في النسبة على السواء ، ولهذا يتناول الاسم الإناث منهم ، وإن لم يكن فيهن ذكر ، ولا يتناول الاسم من ولد الرجل المعروف الإناث اللاتي لا ذكر معهن ، فإن كان لفلان بنو صلب وبنو ابن ، فالوصية لبني الصلب ; لأنهم بنوه في الحقيقة ( وأما ) بنو الابن ، فبنو بنيه حقيقة لا بنوه ، وإنما يسمون بنيه مجازا ، وإطلاق اللفظ يحمل على الحقيقة ما أمكن ، فإن لم يكن له بنو الصلب ، فالوصية لبني الابن ; لأنهم بنوه مجازا ، فيحمل عليه عند تعذر العمل بالحقيقة .

                                                                                                                                وأما أبناء البنات ، فلا يدخلون في الوصية عند أبي حنيفة - عليه الرحمة - ، وذكر الخصاف عن محمد - رحمه الله - أنهم يدخلون كأبناء البنين ، وسنذكر المسألة إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                فإن كان له ابنان لصلبه ، فالوصية لهما في قولهم جميعا ; لأن اسم الجمع في باب الوصية يتناول الاثنين فصاعدا ، فقد وجد من يستحق كل الوصية ، فلا يحمل على غيرهم ، وإن كان له ابن واحد لصلبه ; صرف نصف الثلث إليه ; لأن المذكور بلفظ الجمع ، وليس في الواحد معنى الجمع ، فلا يستحق الواحد كل الوصية بل النصف ، ويرد النصف الباقي إلى ، ورثة الموصي ، وإن كان له ابن ، واحد لصلبه وابن [ ص: 345 ] ابنه ، فالنصف لابنه ، والباقي يرد على ورثة الموصي في قول أبي حنيفة رضي الله عنه وعندهما النصف لابنه ، وما بقي ، فلابن ابنه ، والصحيح قول أبي حنيفة ; لأن اللفظ الواحد لا يحمل على الحقيقة ، والمجاز في زمان واحد ، وإذا صارت الحقيقة مرادة سقط المجاز ، وعندهما يجوز حمل اللفظ الواحد على الحقيقة والمجاز في حالة واحدة ، وهذا غير سديد ; لأن الحقيقة اسم للثابت المستقر في موضعه ، والمجاز ما انتقل عن موضعه ، والشيء الواحد في زمان واحد يستحيل أن يكون ثابتا في محله ، ومنتقلا عن محله .

                                                                                                                                ولو كان له بنات وبنو ابن ، فلا شيء للفريقين في قول أبي حنيفة رضي الله عنه وفي قولهما هو بينهم بالسوية ; لأن عند أبي حنيفة ، ولد الصلب إذا كان حيا يسقط معه ، ولد الولد غير أن ولد الصلب ههنا البنات على الانفراد ، واسم البنين لا يتناول البنات على الانفراد ، فلم تصح الوصية في الفريقين جميعا ، وعلى أصلهما تحمل الوصية على ولد الولد إذا لم يجز أولاد الولد بالوصية ، ويتناولهما الاسم على الاشتراك ، وصاروا كالبطن الواحد ، فيشترك ذكورهم وإناثهم ، ولو قال : أوصيت بثلث مالي لإخوة فلان ، وهم ذكور وإناث ، فهو على الخلاف الذي ذكرنا عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - هو للذكور دون الإناث ، وعند محمد - رحمه الله - هو بينهم بالسواء لا يزاد الذكر على الأنثى ، والحجج على نحو ما ذكرنا في المسألة المتقدمة .

                                                                                                                                ولو أوصى لولد فلان ، فالذكر فيه والأنثى سواء في قولهم جميعا ; لأن الولد اسم للمولود ، وإنه يتناول الذكر ، والأنثى ، ولو كانت له امرأة حامل دخل ما في بطنها في الوصية ; لأن الوصية أخت الميراث ; لأن الاستحقاق في كل واحد منهما يتعلق بالموت ، ثم الحمل يدخل في الميراث ، فيدخل في الوصية ، فإن كان له بنات وبنو ابن ، فالوصية لبناته دون بني ابنه ; لأن اسم الولد للبنات بانفرادهن حقيقة ولأولاد الابن مجاز ، ومهما أمكن حمل اللفظ على الحقيقة لا يحمل على المجاز ، فإن لم يكن له ولد صلب ، فالوصية لولد الابن يستوي فيه ذكورهم وإناثهم ; لأنه تعذر العمل بحقيقة اللفظ ، فيعمل بالمجاز تصحيحا لكلام العاقل ، ولا يدخل أولاد البنات في الوصية في قول أبي حنيفة رضي الله عنه وذكر الخصاف عن محمد - رحمهما الله - أن ولد البنات يدخلون فيها كولد البنين ، وذكر في السير الكبير إذا أخذ الأمان لنفسه ، وولده لم يدخل فيه أولاد البنات ، فصار عن محمد - رحمه الله - روايتان ( وجه ) رواية الخصاف أن الولد ينسب إلى أبويه جميعا ; لأنه ولد أبيه وولد أمه حقيقة لانخلاقه من مائهما جميعا ، ثم ولد ابنه ينسب إليه ، فكذا ولد بنته ; ولهذا يضاف أولاد سيدتنا ، فاطمة رضي الله عنها إلى أبيها رسول الله صلى الله عليه وسلم { وقال صلى الله عليه وسلم للحسن رضي الله عنه إن ابني هذا لسيد ، وإن الله تبارك وتعالى يصلح به بين الفئتين } .

                                                                                                                                وروي أنه عليه الصلاة والسلام { قال للحسن والحسين رضي الله عنهما إن ابني لسيدا كهول أهل الجنة } .

                                                                                                                                وكذا يقال لسيدنا عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام أنه من بني آدم ، وإن كان لا ينتسب إليه إلا من قبل أمه ، ولأبي حنيفة أن أولاد البنات ينسبون إلى آبائهم لا إلى أب الأم قال الشاعر

                                                                                                                                بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد

                                                                                                                                ( وأما ) قوله إن الولد ينسب إلى أبيه وإلى أمه قلنا : نعم ، وبنت الرجل ولده حقيقة ، فكان ولدها ولده حقيقة بواسطتها حتى تثبت جميع أحكام الأولاد في حقه ، كما تثبت في أولاد البنين إلا أن النسب إلى الأمهات مهجور عادة ، فلا ينسب أولاد البنات إلى آباء الأمهات بوساطتهن ، ولا يدخلون تحت النسبة المطلقة ، وأولاد سيدتنا ، فاطمة رضي الله تعالى عنهم لم تهجر نسبتهم إليها ، فينسبون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بواسطتها ، وقيل إنهم خصوا بالنسبة إليه عليه الصلاة والسلام تشريفا وإكراما لهم ، وقد روى بعض مشايخنا عن شمس الأئمة الحلواني - رحمه الله - في هذا حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { : كل بني بنت بنو أبيهم إلا أولاد ، فاطمة رضي الله تعالى عنها فإنهم أولادي } ، فإن لم يكن له إلا ولد واحد ، فالثلث له سواء كان ذكرا أو أنثى ; لأن اسم الولد يتناول الولد الواحد ، فما زاد عليه حقيقة ، ولا يتناول الجمع قال هشام : سألت محمدا عن رجل له ابن وبنت ، فقال : أوصيت لفلان بمثل نصيب أحد ابني ، ثم مات الموصي ، فكم يجعل للموصى له قال : ذلك إلى الورثة إن شاءوا أعطوه أقل الأنصباء قلت له : فإن كان له ابنتان ، وابن قال : فكذلك أيضا قلت [ ص: 346 ] فإن كان له ابنان وبنت أو ابنان وبنتان أو بنون وبنات ، فقال : قد أوصيت : لفلان بمثل نصيب أحد ابني ، فقال : يعطى الموصى له في هذا نصيب ابن ، وإنما كان كذلك ; لأنه إذا قال : أحد ابني وله ابن وبنت علم أنه سمى الأنثى ابنا لاجتماعها مع الذكر ، فدخلت في الكلام ، فكان للورثة أن يحملوا الوصية على نصيبهما ، وإذا كان له بنون ، وبنات أو ابنان وبنات فقال : أحد بني يقع على الذكور ، فتحمل الوصية على نصيب ، واحد منهم دون نصيب البنات قال محمد - رحمه الله - : فإذا كان له بنت وابن أو ابن وبنتان أو ابن وبنات فالابن وحده لا يكون بنين .

                                                                                                                                والأمر على ما ذكره محمد ; لأن اسم الجمع لا يتناول الواحد ، فلا بد من إدخال الإناث معه ، فحملت الوصية على نصيب أحدهم ، فهذا إشارة إلى اعتباره حقيقة اللفظ ، وإن الاسم يحمل على الذكور إلا عند التعذر .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية