الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( وأما ) وجوده عند موت الموصي ، فهل هو شرط بقاء الوصية على الصحة ؟ ( فأما ) في الثلث ، والعين المشار إليها فشرط ، حتى لو أوصى بثلث ماله ، وله مال عند كلام الوصية ، ثم هلك ، ثم مات الموصى بطلت الوصية .

                                                                                                                                وكذلك الوصية بما في البطن ، والضرع ، وبما على الظهر من الصوف ، واللبن ، والولد ، حتى لو مات الموصى بطلت الوصية إذا لم يكن ذلك موجودا وقت موته .

                                                                                                                                وأما في الوصية بالثمرة فليس بشرط استحسانا ، والقياس أن يكون شرطا ، ولا يشترط ذلك في الوصية بغلة الدار ، والعبد ، والحاصل أن جنس هذه الوصايا على أقسام بعضها يقع على الموجود وقت موت الموصي ، والذي يوجد بعد موته سواء ذكر الموصي في وصيته الأبد ، أو لم يذكر ، وهو الوصية بالغلة ، وسكنى الدار ، وخدمة العبد ، وبعضها يقع على الموجود قبل الموت ، ولا يقع على ما يحدث بعد موته سواء ذكر الأبد أو لم يذكر ، وهو الوصية بما في البطن ، والضرع ، وبما على الظهر ، فإن كان في بطنها ، ولد ، وفي ضرعها لبن ، وعلى ظهرها صوف وقت موت الموصي فالوصية جائزة ، وإلا فلا ، وفي بعضها إن ذكر لفظ الأبد يقع على الموجود ، والحادث ، وإن لم يذكر ، فإن كان موجودا وقت موت الموصي يقع على الموجود ، ولا يقع على الحادث ، وإن لم يكن موجودا فالقياس أن تبطل الوصية كما في الصوف ، والولد ، واللبن ، وفي الاستحسان لا تبطل ، وتقع على ما يحدث كما لو ذكر الأبد ، وهذه الوصية بثمرة البستان .

                                                                                                                                والشجر إنما كان كذلك ; لأن الوصية إنما تجوز فيما يجري فيه الإرث ، أو فيما يدخل تحت عقد من العقود في حالة الحياة ، والحادث من الولد ، وأخواته لا يجري فيه الإرث ، ولا يدخل تحت عقد من العقود فلا يدخل تحت الوصية ، بخلاف الغلة فإن له نظيرا في العقود ، وهو عقد المعاملة ، والإجارة ، .

                                                                                                                                وكذلك سكنى الدار ، وخدمة العبد يدخلان تحت عقد الإجارة ، والإعارة فكان لهما نظير في العقود .

                                                                                                                                وأما الوصية بثمرة البستان ، والشجر فلا شك أنها تقع عن الموجود وقت موت الموصي ، والحادث بعد موته إن ذكر الأبد ; لأن اسم الثمرة يقع على الموجود ، والحادث ، والحادث منها يحتمل الدخول تحت بعض العقود ، وهو عقد المعاملة ، والوقف ، فإذا ذكر الأبد يتناوله ، وإن لم يذكر الأبد ، فإن كان وقت موت [ ص: 355 ] الموصي ثمرة موجودة دخلت تحت الوصية ، ولا يدخل ما يحدث بعد الموت ، وإن لم يكن فالقياس أن لا يتناول ما يحدث ، وتبطل الوصية ، وفي الاستحسان يتناوله ، ولا تبطل الوصية .

                                                                                                                                ( وجه ) القياس أن الثمرة بمنزلة الولد ، والصوف ، واللبن ، والوصية بشيء من ذلك لا يتناول الحادث كذا الثمرة .

                                                                                                                                ( وجه ) الاستحسان أن الاسم يحتمل الحادث ، وفي حمل الوصية عليه تصحيح العقد ، ويمكن تصحيحه ; لأن له نظيرا من العقود ، وهو الوقف ، والمعاملة ، ولهذا لو نص على الأبد يتناوله ، بخلاف الولد ، والصوف ، واللبن ; لأنه عقد ما لا يحتمله فلم يكن ممكن التصحيح ، ولهذا لو نص على الأبد لا يتناول الحادث ، وههنا بخلافه ، ولو أوصى لرجل ببستانه يوم يموت ، وليس له يوم أوصى بستان ، ثم اشترى بستانا ، ثم مات فالوصية جائزة ; لأن الوصية بالمال إيجاب الملك عند الموت فيراعى وجود الموصى به وقت الموت .

                                                                                                                                ألا ترى أنه لو أوصى له بعين البستان ، وليس في ملكه البستان يوم الوصية ، ثم ملكه ، ثم مات صحت الوصية ، ولو قال : أوصيت لفلان بغلة بستاني ، ولا بستان له فاشترى بعد ذلك ذلك ومات ذكر الكرخي - عليه الرحمة - أن الوصية جائزة ، وذكر في الأصل أنها غير جائزة .

                                                                                                                                ( وجه ) رواية الأصل أن قوله بستاني يقتضي وجود البستان للحال ، فإذا لم يوجد لم يصح .

                                                                                                                                ( والصحيح ) ما ذكره الكرخي ; لأن الوصية إيجاب الملك بعد الموت فيستدعي وجود الموصى به عند الموت لا وقت كلام الوصية ، ولو أوصى لرجل بثلث غنمه فهلكت الغنم قبل موته ، أو لم يكن له غنم من الأصل فمات ولا غنم له فالوصية باطلة .

                                                                                                                                وكذلك العروض كلها ; لأن الوصية تمليك عند الموت ، ولا غنم له عند الموت ، فإن لم يكن له غنم وقت كلام الوصية ، ثم استفاد بعد ذلك ذكر في الأصل أن الوصية باطلة ; لأن قوله غنمي يقتضي غنما موجودة وقت الوصية كما قلنا في البستان .

                                                                                                                                وعلى رواية الكرخي - رحمه الله - ينبغي أن يجوز لما ذكرنا في البستان .

                                                                                                                                وكذلك لو قال أوصيت له بشاة من غنمي ، أو بقفيز من حنطتي ، ثم مات وليس له غنم ولا حنطة فالوصية باطلة لما قلنا ، ولو لم يكن له غنم ، ولا حنطة ثم استفاد بعد ذلك ثم مات ، فهو على الروايتين اللتين ذكرناهما ، وبمثله لو قال : شاة من مالي أو قفيز حنطة من مالي ، وليس له غنم ، ولا حنطة فالوصية جائزة ، ويعطى قيمة الشاة ; لأنه لما أضاف إلى المال ، وعين الشاة لا توجد في المال علم أنه أراد به قدر مالية الشاة ، وهي قيمتها ، ولو أوصى بشاة ، ولم يقل من غنمي ، ولا من مالي فمات وليس له غنم لم يذكر هذا الفصل في الكتاب ، واختلف المشايخ فيه قال بعضهم : لا تصح الوصية ; لأن الشاة اسم للصورة .

                                                                                                                                والمعنى جميعا إلا أنا حملنا هذا الاسم على المعنى في الفصل الأول بقرينة الإضافة إلى المال ، ولم توجد ههنا .

                                                                                                                                وقال بعضهم : يصح ; لأن الشاة إذا لم تكن موجودة في ماله فالظاهر أنه أراد به مالية الشاة تصحيحا لتصرفه فيعطى قيمة شاة ، وقد ذكر في السير الكبير مسألة تؤيد هذا القول ، وهي أن الإمام إذا نفل سرية فقال : من قتل قتيلا فله جارية من السبايا .

                                                                                                                                فإن كان في السبي جارية يعطى من قتل قتيلا ، وإن لم يكن في السبي جارية لا يعطى شيئا ، ولو قال : من قتل قتيلا فله جارية ، ولم يقل من السبي فإنه يعطى من قتل قتيلا قدر مالية الجارية كذا ههنا .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية