الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فصل :

[ عود إلى أدلة اتباع أقوال الصحابة ]

الوجه الثاني : قوله تعالى : { اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون } هذا قصه الله سبحانه وتعالى عن صاحب ياسين ، على سبيل الرضاء بهذه المقالة ، والثناء على قائلها ، والإقرار له عليها ، وكل واحد من الصحابة لم يسألنا أجرا ، وهم مهتدون ، بدليل قوله تعالى خطابا لهم : { وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون } و " لعل " من الله واجب وقوله تعالى : { ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } وقوله تعالى : { والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم } وقوله تعالى : { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } وكل منهم قاتل في سبيل الله وجاهد إما بيده أو بلسانه ، فيكون الله قد هداهم ، وكل من هداه فهو مهتد فيجب اتباعه بالآية . [ ص: 100 ]

الوجه الثالث : قوله تعالى : { واتبع سبيل من أناب إلي } وكل من الصحابة منيب إلى الله فيجب اتباع سبيله ، وأقواله واعتقاداته من أكبر سبيله ، والدليل على أنهم منيبون إلى الله تعالى أن الله تعالى قد هداهم وقد قال : { ويهدي إليه من ينيب } .

الوجه الرابع : قوله تعالى : { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني } فأخبر تعالى أن من اتبع الرسول يدعو إلى الله ، ومن دعا إلى الله على بصيرة وجب اتباعه ; لقوله تعالى فيما حكاه عن الجن ورضيه : { يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به } ولأن من دعا إلى الله على بصيرة فقد دعا إلى الحق عالما به ، والدعاء إلى أحكام الله دعاء إلى الله ; لأنه دعاء إلى طاعته فيما أمر ونهى ، وإذا فالصحابة رضوان الله عليهم قد اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم فيجب اتباعهم إذا دعوا إلى الله .

الوجه الخامس : قوله تعالى { قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى } قال ابن عباس في رواية أبي مالك : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، والدليل عليه قوله تعالى { : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } وحقيقة الاصطفاء : افتعال من التصفية ، فيكون قد صفاهم من الأكدار ، والخطأ من الأكدار ، فيكونون مصفين منه ، ولا ينتقض هذا بما إذا اختلفوا لأن الحق لم يعدهم ، فلا يكون قول بعضهم كدرا ; لأن مخالفته الكدر ، وبيانه يزيل كونه كدرا بخلاف ما إذا قال بعضهم قولا ولا يخالف فيه فلو كان قولا باطلا ، ولم يرده راد لكان حقيقة الكدر ، وهذا لأن خلاف بعضهم لبعض بمنزلة متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أموره ، فإنها لا تخرجه عن حقيقة الاصطفاء .

الوجه السادس : أن الله تعالى شهد لهم بأنهم أوتوا العلم بقوله : { ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق } وقوله : { حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا } وقوله : { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } واللام في " العلم " ليست للاستغراق ، وإنما هي للعهد ، أي العلم الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم ، وإذا كانوا أوتوا هذا العلم كان اتباعهم واجبا .

الوجه السابع : قوله تعالى { : كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } شهد لهم الله تعالى بأنهم يأمرون [ ص: 101 ] بكل معروف ، وينهون عن كل منكر ، فلو كانت الحادثة في زمانهم لم يفت فيها إلا من أخطأ منهم لم يكن أحد منهم قد أمر فيها بمعروف ولا نهى فيها عن منكر ; إذ الصواب معروف بلا شك ، والخطأ منكر من بعض الوجوه ، ولولا ذلك لما صح التمسك بهذه الآية على كون الإجماع حجة ، وإذا كان هذا باطلا علم أن خطأ من يعلم منهم في العلم إذا لم يخالفه غيره ممتنع ، وذلك يقتضي أن قوله حجة .

الوجه الثامن : قوله تعالى { : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } قال غير واحد من السلف : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا ريب أنهم أئمة الصادقين ، وكل صادق بعدهم فيهم يأتم في صدقه ، بل حقيقة صدقه اتباعه لهم وكونه معهم ، ومعلوم أن من خالفهم في شيء وإن وافقهم في غيره لم يكن معهم فيما خالفهم فيه ، وحينئذ فيصدق عليه أنه ليس معهم ، فتنتفي عنه المعية المطلقة ، وإن ثبت له قسط من المعية وفيما وافقهم فيه ، فلا يصدق عليه أنه معهم بهذا القسط ، وهذا كما نفى الله ورسوله الإيمان المطلق عن الزاني والشارب والسارق والمنتهب بحيث لا يستحق اسم المؤمن ، وإن لم ينتف عنه مطلق الاسم الذي يستحق لأجله أن يقال : معه شيء من الإيمان ، وهذا كما أن اسم الفقيه والعالم عند الإطلاق لا يقال لمن معه مسألة أو مسألتان من فقه وعلم ، وإن قيل : معه شيء من العلم ، ففرق بين المعية المطلقة ومطلق المعية ، ومعلوم أن المأمور به الأول لا الثاني ، فإن الله تعالى لم يرد منا أن نكون معهم في شيء من الأشياء ، وأن نحصل من المعية ما يطلق عليه الاسم ، وهذا غلط عظيم في فهم مراد الرب تعالى من أوامره ; فإذا أمرنا بالتقوى والبر والصدق والعفة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد ونحو ذلك لم يرد منا أن نأتي من ذلك بأقل ما يطلق عليه الاسم ، وهو مطلق الماهية المأمور بها بحيث نكون ممتثلين لأمره إذا أتينا بذلك ، وتمام تقرير هذا الوجه بما تقدم في تقرير الأمر بمتابعتهم سواء .

الوجه التاسع : قوله تعالى { : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا } ووجه الاستدلال بالآية أنه تعالى أخبر أنه جعلهم أمة خيارا عدولا ، هذا حقيقة الوسط ، فهم خير الأمم ، وأعدلها في أقوالهم ، وأعمالهم ، وإرادتهم ونياتهم ، وبهذا استحقوا أن يكونوا شهداء للرسل على أممهم يوم القيامة ، والله [ ص: 102 ] تعالى يقبل شهادتهم عليهم ، فهم شهداؤه ، ولهذا نوه بهم ورفع ذكرهم ، وأثنى عليهم ; لأنه تعالى لما اتخذهم شهداء أعلم خلقه من الملائكة وغيرهم بحال هؤلاء الشهداء ، وأمر ملائكته أن تصلي عليهم وتدعو لهم وتستغفر لهم ، والشاهد المقبول عند الله هو الذي يشهد بعلم وصدق فيخبر بالحق مستندا إلى علمه به كما قال تعالى { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } فقد يخبر الإنسان بالحق اتفاقا من غير علمه به ، وقد يعلمه ولا يخبر به ; فالشاهد المقبول عند الله هو الذي يخبر به عن علم ; فلو كان علمهم أن يفتي أحدهم بفتوى وتكون خطأ مخالفة لحكم الله ورسوله ولا يفتي غيره بالحق الذي هو حكم الله ورسوله إما مع اشتهار فتوى الأول أو بدون اشتهارها كانت هذه الأمة العدل الخيار قد أطبقت على خلاف الحق ، بل انقسموا قسمين قسما أفتى بالباطل وقسما سكت عن الحق ، وهذا من المستحيل فإن الحق لا يعدوهم ويخرج عنهم إلى من بعدهم قطعا ، ونحن نقول لمن خالف أقوالهم : لو كان خيرا ما سبقونا إليه .

الوجه العاشر : أن قوله تعالى { وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس } فأخبر تعالى أنه اجتباهم ، والاجتباء كالاصطفاء ، وهو افتعال من " اجتبى الشيء يجتبيه " إذا ضمه إليه وحازه إلى نفسه ، فهم المجتبون الذين اجتباهم الله إليه وجعلهم أهله وخاصته وصفوته من خلقه بعد النبيين والمرسلين ، ولهذا أمرهم تعالى أن يجاهدوا فيه حق جهاده ، فيبذلوا له أنفسهم ، ويفردوه بالمحبة والعبودية ، ويختاروه وحده إلها معبودا محبوبا على كل ما سواه كما اختارهم على من سواهم ، فيتخذونه وحده إلههم ومعبودهم الذي يتقربون إليه بألسنتهم وجوارحهم وقلوبهم ومحبتهم ، وإرادتهم ، فيؤثرونه في كل حال على من سواه ، كما اتخذهم عبيده ، وأولياءه ، وأحباءه وآثرهم بذلك على من سواهم ، ثم أخبرهم تعالى أن يسر عليهم دينه غاية التيسير ، ولم يجعل عليهم فيه من حرج ألبتة لكمال محبته لهم ورأفته ورحمته وحنانه بهم ، ثم أمرهم بلزوم ملة إمام الحنفاء أبيهم إبراهيم ، وهي إفراده تعالى وحده بالعبودية والتعظيم والحب والخوف والرجاء والتوكل والإنابة والتفويض والاستسلام ; فيكون تعلق ذلك من قلوبهم به وحده لا بغيره ، ثم أخبر تعالى أنه نوه بهم وسماهم كذلك بعد أن أوجدهم اعتناء بهم ورفعة لشأنهم ، وإعلاء لقدرهم ، ثم أخبر تعالى أنه فعل ذلك ليشهد عليهم رسوله ويشهدوا هم على الناس ; فيكونون مشهودا لهم بشهادة الرسول شاهدين على الأمم بقيام حجة الله عليهم ، فكان هذا التنويه ، وإشارة الذكر لهذين الأمرين الجليلين ولهاتين [ ص: 103 ] الحكمتين العظيمتين ، والمقصود أنهم إذا كانوا بهذه المنزلة عنده تعالى فمن المحال أن يحرمهم كلهم الصواب في مسألة فيفتي فيها بعضهم بالخطأ ، ولا يفتي فيها غيره بالصواب ، ويظفر فيها بالهدى من بعدهم ، والله المستعان .

الوجه الحادي عشر : قوله تعالى { : ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم } ووجه الاستدلال بالآية أنه تعالى أخبر عن المعتصمين به بأنهم قد هدوا إلى الحق ; فنقول : الصحابة رضوان الله عليهم معتصمون بالله فهم مهتدون ، فاتباعهم واجب ، أما المقدمة الأولى فتقريرها من وجوه ، أحدها : قوله تعالى : { واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير } ومعلوم كمال تولي الله تعالى لهم ونصره إياهم أتم نصرة ، وهذا يدل على أنهم اعتصموا به أتم اعتصام ، فهم مهديون بشهادة الرب لهم بلا شك ، واتباع المهدي واجب شرعا وعقلا وفطرة بلا شك ، وما يرد على هذا الوجه من أن المتابعة لا تستلزم المتابعة في جميع أمورهم فقد تقدم جوابه .

الوجه الثاني عشر : قوله تعالى عن أصحاب موسى : { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون } فأخبر تعالى أنه جعلهم أئمة يأتم بهم من بعدهم لصبرهم ويقينهم ; إذ بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين فإن الداعي إلى الله تعالى لا يتم له أمره إلا بيقينه للحق الذي يدعو إليه وبصيرته به وصبره على تنفيذ الدعوة إلى الله باحتمال مشاق الدعوة وكف النفس عما يوهن عزمه ويضعف إرادته ، فمن كان بهذه المثابة كان من الأئمة الذين يهدون بأمره تعالى ومن المعلوم أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحق ، وأولى بهذا الوصف من أصحاب موسى ، فهم أكمل يقينا ، وأعظم صبرا من جميع الأمم ، فهم أولى بمنصب هذه الإمامة ، وهذا أمر ثابت بلا شك بشهادة الله لهم وثنائه عليهم ، وشهادة الرسول لهم بأنهم خير القرون ، وأنهم خيرة الله وصفوته ، ومن المحال على من هذا شأنهم أن يخطئوا كلهم الحق ، ويظفر به المتأخرون ، ولو كان هذا ممكنا لانقلبت الحقائق ، وكان المتأخرون أئمة لهم يجب عليهم الرجوع إلى فتاويهم ، وأقوالهم ، وهذا كما أنه محال حسا وعقلا فهو محال شرعا ، وبالله التوفيق .

الوجه الثالث عشر : قوله تعالى { : والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما } ، وإمام بمعنى قدوة ، وهو يصلح للواحد والجمع كالأمة والأسوة ، وقد قيل : هو جمع آمم كصاحب وصحاب وراجل ورجال وتاجر وتجار ، وقيل : هو مصدر كقتال وضراب ، أي ذوي إمام ، والصواب الوجه الأول ، فكل من كان من المتقين وجب عليه أن يأتم بهم ، والتقوى واجبة ، والائتمام بهم واجب ، ومخالفتهم [ ص: 104 ] فيما أفتوا به مخالف للائتمام بهم ، وإن قيل " نحن نأتم بهم في الاستدلال وأصول الدين " فقد تقدم من جواب هذا ما فيه كفاية .

الوجه الرابع عشر : ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح من وجوه متعددة أنه قال : { خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم } فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن خير القرون قرنه مطلقا ، وذلك يقتضي تقديمهم في كل باب من أبواب الخير ، إلا لو كانوا خيرا من بعض الوجوه ، فلا يكونون خير القرون مطلقا ، فلو جاز أن يخطئ الرجل منهم في حكم وسائرهم لم يفتوا بالصواب - ، وإنما ظفر بالصواب من بعدهم ، وأخطئوا هم - لزم أن يكون ذلك القرن خيرا منهم من ذلك الوجه ; لأن القرن المشتمل على الصواب خير من القرن المشتمل على الخطأ في ذلك الفن ، ثم هذا يتعدد في مسائل عديدة ; لأن من يقول " قول الصحابي ليس بحجة " يجوز عنده أن يكون من بعدهم أصاب في كل مسألة قال فيها الصحابي قولا ، ولم يخالفه صحابي آخر ، وفات هذا الصواب الصحابة ، ومعلوم أن هذا يأتي في مسائل كثيرة تفوق العد والإحصاء ، فكيف يكونون خيرا ممن بعدهم وقد امتاز القرن الذي بعدهم بالصواب فيما يفوق العد والإحصاء مما أخطئوا فيه ؟ ومعلوم أن فضيلة العلم ومعرفة الصواب أكمل الفضائل ، وأشرفها ، فيا سبحان الله ، أي وصمة أعظم من أن يكون الصديق أو الفاروق أو عثمان أو علي أو ابن مسعود أو سلمان الفارسي أو عبادة بن الصامت ، وأضرابهم رضي الله عنهم قد أخبر عن حكم الله أنه كيت وكيت في مسائل كثيرة ، وأخطأ في ذلك ، ولم يشتمل قرنهم على ناطق بالصواب في تلك المسائل حتى تبع من بعدهم فعرفوا حكم الله الذي جهله أولئك السادة ، وأصابوا الحق الذي أخطأه أولئك الأئمة ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم ، .

الوجه الخامس عشر : ما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري قال : { صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا : لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء ، فجلسنا ، فخرج علينا فقال : ما زلتم هاهنا ؟ فقلنا : يا رسول الله صلينا معك المغرب ثم قلنا نجلس حتى نصلي معك العشاء ، قال : أحسنتم ، وأصبتم ورفع رأسه إلى السماء ، وكان كثيرا ما يرفع رأسه إلى السماء ، فقال النجوم أمنة للسماء ، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد ، وأنا أمنة لأصحابي ، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أمنة لأمتي ، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون } ووجه الاستدلال بالحديث أنه جعل نسبة أصحابه إلى من [ ص: 105 ] بعدهم كنسبته إلى أصحابه ، وكنسبة النجوم إلى السماء ، ومن المعلوم أن هذا التشبيه يعطي من وجوب اهتداء الأمة بهم ما هو نظير اهتدائهم بنبيهم صلى الله عليه وسلم ونظير اهتداء أهل الأرض بالنجوم ، وأيضا فإنه جعل بقاءهم بين الأمة أمنة لهم ، وحرزا من الشر وأسبابه ، فلو جاز أن يخطئوا فيما أفتوا به ويظفر به من بعدهم لكان الظافرون بالحق أمنة للصحابة وحرزا لهم ، وهذا من المحال .

الوجه السادس عشر : ما رواه أبو عبد الله بن بطة من حديث الحسن عن أنس

[ أنه ] قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن مثل أصحابي في أمتي كمثل الملح في الطعام ، لا يصلح الطعام إلا بالملح } قال الحسن : قد ذهب ملحنا فكيف نصلح ؟ وروى ابن بطة أيضا بإسنادين إلى عبد الرزاق أخبرنا معمر عمن سمع الحسن يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { مثل أصحابي في الناس كمثل الملح في الطعام } ثم يقول الحسن : هيهات ، ذهب ملح القوم ، وقال الإمام أحمد : حدثنا حسين بن علي الجعفي عن أبي موسى يعني إسرائيل - عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { مثل أصحابي كمثل الملح في الطعام } قال : يقول الحسن : هل يطيب الطعام إلا بالملح ؟ ويقول الحسن : فكيف بقوم ذهب ملحهم ؟ ووجه الاستدلال أنه شبه أصحابه في صلاح دين الأمة بهم بالملح الذي صلاح الطعام به ، فلو جاز أن يفتوا بالخطأ ولا يكون في عصرهم من يفتي بالصواب ويظفر به من بعدهم لكان من بعدهم ملحا لهم ، وهذا محال . يوضحه أن الملح كما أن به صلاح الطعام ; فالصواب به صلاح الأنام ، فلو أخطئوا فيما أفتوا به لاحتاج ذلك إلى ملح يصلحه ، فإذا أفتى من بعدهم بالحق كان قد أصلح خطأهم فكان ملحا لهم .

الوجه السابع عشر : ما روى البخاري في صحيحه من حديث الأعمش قال : سمعت أبا صالح يحدث عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تسبوا أصحابي ، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه } وفي لفظ " فوالذي نفسي بيده " ، وهذا خطاب منه لخالد بن الوليد ولأقرانه من مسلمة الحديبية والفتح ، فإذا كان مد أحد أصحابه أو نصيفه أفضل عند الله من مثل أحد ذهبا من مثل خالد ، وأضرابه من أصحابه فكيف يجوز أن يحرمهم الله الصواب في الفتاوى ويظفر به من بعدهم ؟ هذا من أبين المحال .

الوجه الثامن عشر : ما روى الحميدي ثنا محمد بن طلحة قال : حدثني عبد الرحمن بن سالم بن عبد الرحمن بن عويلم بن ساعدة عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ ص: 106 ] { إن الله اختارني ، واختار لي أصحابا ، فجعل لي منهم وزراء ، وأنصارا ، وأصهارا } الحديث ، ومن المحال أن يحرم الله الصواب من اختارهم لرسوله وجعلهم وزراءه ، وأنصاره ، وأصهاره ويعطيه من بعدهم في شيء من الأشياء .

الوجه التاسع عشر : ما روى أبو داود الطيالسي ثنا المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد ، فبعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لصحبة نبيه ونصرة دينه ، فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ، وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح ، ومن المحال أن يخطئ الحق في حكم الله خير قلوب العباد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويظفر به من بعدهم ، وأيضا فإن ما أفتى به أحدهم وسكت عنه الباقون كلهم فإما أن يكونوا قد رأوه حسنا أو يكونوا قد رأوه قبيحا ، فإن كانوا قد رأوه حسنا فهو حسن عند الله ، وإن كانوا قد رأوه قبيحا ، ولم ينكروه لم تكن قلوبهم من خير قلوب العباد ، وكان من أنكره بعدهم خيرا منهم وأعلم ، وهذا من أبين المحال .

الوجه العشرون : ما رواه الإمام أحمد وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : من كان متأسيا فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ; فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا ، وأعمقها علما ، وأقلها تكلفا ، وأقومها هديا ، وأحسنها حالا ، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ، وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم ، واتبعوا آثارهم ، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم ، ومن المحال أن يحرم الله أبر هذه الأمة قلوبا ، وأعمقها علما ، وأقلها تكلفا ، وأقومها هديا الصواب في أحكامه ويوفق له من بعدهم .

الوجه الحادي والعشرون : ما رواه الطبراني ، وأبو نعيم وغيرهما عن حذيفة بن اليمان أنه قال : يا معشر القراء ، خذوا طريق من كان قبلكم ، فوالله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقا بعيدا ، ولئن تركتموه يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا .

ومن المحال أن يكون الصواب ، في غير طريق من سبق إلى كل خير على الإطلاق .

الوجه الثاني والعشرون : ما قاله جندب بن عبد الله لفرقة دخلت عليه من الخوارج ، فقالوا : ندعوك إلى كتاب الله ، فقال : أنتم ؟ قالوا : نحن ، قال : أنتم ؟ قالوا : نحن ، فقال : يا أخابيث خلق الله في اتباعنا تختارون الضلالة ، أم في غير سنتنا تلتمسون الهدى ؟ اخرجوا عني ، ومن المعلوم أن من جوز أن تكون الصحابة أخطئوا في فتاويهم فمن بعدهم وخالفهم [ ص: 107 ] فيها فقد اتبع الحق في غير سنتهم ، وقد دعاه إلى كتاب الله ; فإن كتاب الله إنما يدعو إلى الحق ، وكفى ذلك إزراء على نفوسهم وعلى الصحابة .

الوجه الثالث والعشرون : ما رواه الترمذي من حديث { العرباض بن سارية قال : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ، ووجلت منها القلوب ، فقال قائل : يا رسول الله كأنها موعظة مودع ، فماذا تعهد إلينا ؟ فقال : عليكم بالسمع والطاعة ، وإن تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ، وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، تمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة } ، وهذا حديث حسن ، إسناده لا بأس به ، فقرن سنة خلفائه بسنته ، وأمر باتباعها كما أمر باتباع سنته ، وبالغ في الأمر بها حتى أمر بأن يعض عليها بالنواجذ ، وهذا يتناول ما أفتوا به وسنوه للأمة ، وإن لم يتقدم من نبيهم فيه شيء ، وإلا كان ذلك سنته ، ويتناول ما أفتى به جميعهم أو أكثرهم أو بعضهم لأنه علق ذلك بما سنه الخلفاء الراشدون ، ومعلوم أنهم لم يسنوا ذلك

[ وهم خلفاء ] في آن واحد ، فعلم أن ما سنه كل واحد منهم في وقته فهو من سنة الخلفاء الراشدين . رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن ضمرة بن حبيب عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي سمع العرباض بن سارية ، فذكر نحوه .

الوجه الرابع والعشرون : ما رواه الترمذي من حديث الثوري عن عبد الملك بن عمير عن هلال مولى ربعي بن حراش عن ربعي عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ، واهتدوا بهدي عمار ، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد } قال الترمذي : هذا حديث حسن ، ووجه الاستدلال به ما تقدم في تقرير المتابعة .

الوجه الخامس والعشرون : ما رواه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن رباح عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا } ، وهو في حديث الميضأة الطويل ، فجعل الرشد معلقا بطاعتهما ، فلو أفتوا بالخطأ في حكم ، وأصابه من بعدهم لكان الرشد في خلافهما .

الوجه السادس والعشرون : { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر في شأن تأمير القعقاع بن حكيم والأقرع بن حابس لو اتفقتما على شيء لم أخالفكما } فهذا رسول [ ص: 108 ] الله صلى الله عليه وسلم يخبر أنه لا يخالفهما لو اتفقا ، ومن يقول قولهما ليس بحجة يجوز مخالفتهما ، وبعض غلاتهم يقول : لا يجوز الأخذ بقولهما ويجب الأخذ بقول إمامنا الذي قلدناه ، وذلك موجود في كتبهم .

الوجه السابع والعشرون : { أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى أبي بكر وعمر فقال هذان السمع والبصر } أي هما مني بمنزلة السمع والبصر ، أو هما من الدين بمنزلة السمع والبصر ، ومن المحال أن يحرم سمع الدين وبصره الصواب ويظفر به من بعدهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية