الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          فصل في الإذن يجوز لولي الصبي المميز أن يأذن له في التجارة في إحدى الروايتين ويجوز ذلك لسيد العبد ، ولا ينفك عنهما الحجر إلا فيما أذن لهما فيه ، وفي النوع الذي أمرا به وإن أذن له في جميع أنواع التجارة لم يجز له أن يؤجر نفسه ، ولا يتوكل لغيره وهل له أن يوكل فيما يتولى مثله بنفسه ؛ على وجهين ، وإن رآه سيده ، أو وليه يتجر فلم ينهه لم يصر مأذونا له ، وما استدان العبد فهو في رقبته يفديه سيده ، أو يسلمه وعنه : يتعلق بذمته يتبع به بعد العتق إلا المأذون له هل يتعلق برقبته ، أو ذمة سيده ؛ على روايتين وإذا باع السيد عبده المأذون له شيئا ، لم يصح في أحد الوجهين ، وفي الآخر يصح إذا كان عليه دين بقدر قيمته ويصح إقرار المأذون له في قدر ما أذن له فيه وإن حجر عليه ، وفي يده مال ، ثم أذن له فأقر به صح ، ولا يبطل الإذن بالإباق ، ولا يصح تبرع المأذون له بهبة الدراهم وكسوة الثياب ويجوز هديته للمأكول وإعارة دابته وهل لغير المأذون الصدقة من قوته بالرغيف ونحوه إذا لم يضر به على روايتين وهل للمرأة الصدقة من بيت زوجها بغير إذنه بنحو ذلك على روايتين .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          فصل في الإذن

                                                                                                                          ( يجوز لولي الصبي المميز أن يأذن له في التجارة في إحدى الروايتين ) جزم به في " الوجيز " ، وهو المرجح لقوله تعالى : وابتلوا اليتامى [ النساء : 6 ] الآية أي : اختبروهم لتعلموا رشدهم ، وإنما يتحقق ذلك بتفويض الأمر إليهم من البيع ، والشراء ونحوه ، ولأنه عاقل محجور عليه ، فصح تصرفه بإذن وليه كالعبد ، والثانية : لا يصح حتى يبلغ لأنه غير مكلف كغير المميز ، ولأن العقل لا يمكن الوقوف منه على الحد الذي يصلح به التصرف لخفائه فجعل الشارع له ضابطا ، وهو البلوغ ، فعلى المذهب لو تصرف بلا إذن لم يصح ، وقيل : بلى ويقف على الإجازة ، وبناهما في " الشرح " على تصرف الفضولي ( ويجوز ذلك لسيد العبد ) بغير خلاف نعلمه ، لأن الحجر عليه إنما كان لحق السيد فجاز له التصرف بإذنه لزوال المانع .

                                                                                                                          ( ولا ينفك عنهما الحجر إلا فيما أذن لهما فيه ، وفي النوع الذي أمرا به ) ، لأن كل واحد منهما يتصرف بالإذن من جهة آدمي ، فوجب أن يختص بما أذن له فيه [ ص: 349 ] وأمره به دون غيره كالوكيل ، والمضارب ، وفي " الانتصار " رواية : إن أذن لعبده في نوع ، ولم ينه عن غيره ملكه أي : جاز أن يتجر في غيره وينفك عنه الحجر مطلقا ، لأن إطلاق الإذن لا يتبعض كبلوغ الصبي ، وجوابه بأنه ينتقض بما إذا أذن له في شراء ثوب يلبسه ونحوه ، والرق سبب الحجر ، وهو موجود ، وظاهر كلامهم أنه كمضارب في البيع نسيئة ، وغيره ، ودل كلامه على أنه إذا كان لاثنين فأذن له أحدهما ، أنه لا يجوز له التصرف ، لأنه يقع بمجموعه ( وإن أذن له في جميع أنواع التجارة لم يجز له أن يؤجر نفسه ، ولا يتوكل لغيره ) ، لأنه عقد على نفسه ، فلا يملكه إلا بإذن كبيع نفسه وتزويجه ، ولأن ذلك يشغله عن التجارة المقصودة بالإذن ، وفي إيجار عبيده وبهائمه خلاف في " الانتصار " ، وفي صحة شراء من يعتق على سيده وامرأته وزوج ربة المال وجهان أصحهما صحته ، وعليه إن صح وعليه دين فقيل : يعتق ، وقيل : يباع فيه . ومثله مضارب ، والأشهر يصح كمن نذر عتقه وشراءه من حلف لا يملكه ( وهل له أن يوكل فيما يتولى مثله بنفسه ؛ على وجهين ) أحدهما : لا يجوز ، جزم به في " الوجيز " ، لأنه متصرف بالإذن فاختص بما أذن فيه ، والثاني : بلى ، لأنه ملك التصرف بنفسه فملكه بنائبه كالمالك الرشيد ، ولأنه أقامه مقام نفسه ( وإن رآه سيده ، أو وليه يتجر ، فلم ينهه لم يصر مأذونا له ) كتزويجه وبيعه ماله ، لأنه تصرف يفتقر إلى الإذن ، فلم يقم السكوت مقامه ، كما لو تصرف أحدهما في الرهن ، والآخر ساكت ، وكتصرف الأجانب ( وما استدان العبد ) يقال استدان ، وادان ، وتدين بمعنى واحد ( فهو في رقبته ) نقله الجماعة ( يفديه سيده ، أو يسلمه ) [ ص: 350 ] كالجناية ( وعنه : يتعلق بذمته يتبع به بعد العتق ) ، لأن صاحب الحق رضي بتأخير حقه لكونه عامل من لا مال له ، فعلى المذهب إن أعتقه ، فعلى مولاه نقله أبو طالب ( إلا المأذون له هل يتعلق برقبته ، أو ذمة سيده ؛ على روايتين ) وحاصله أن لتصرف العبد حالتين إحداهما : أن يكون غير مأذون له ، ولتصرفه حالتان إحداهما : أن يتصرف ببيع ، أو شراء بعين المال ، فهذا لا يصح على المذهب كالغاصب ، وقيل : بلى ويقف على الإجازة كالفضولي ، الثانية : أن يتصرف في ذمته ، وفيه وجهان وحكاهما المجد روايتين إحداهما : يصح تصرفه إلحاقا له بالمفلس إذ الحجر عليه لحق السيد ، والثانية : لا يصح ، لأنه محجور عليه كالسفيه ، فعلى الأول ما اشتراه ، أو اقترضه إن وجد في يده انتزع منه لتحقق إعساره . قاله في " المغني " ، و " التلخيص " ، وإن أخذه سيده لم ينتزع منه على المشهور ، لأنه وجد مملوكه بحق ، أشبه ما لو وجد في يده صيدا ونحوه ، واختار في " التلخيص " جواز الانتزاع منه ، لأن الملك وقع ابتداء ، وإن تلف بيد السيد لم يضمنه واستقر ثمنه في رقبة العبد أو ذمته على الخلاف ، وكذا إن تلف في يد العبد ، وعلى الثاني وهو فساد التصرف يرجع مالك العين حيث وجدها ، فإن كانت تالفة فله قيمته ، أو مثله إن كان مثليا ، ثم إن كان التلف في يد العبد رجع عليه وتعلق برقبته كالجناية ، وعنه : يتعلق بذمته لعموم ما روي عن الفقهاء التابعين من أهل المدينة قال : كانوا يقولون دين المملوك في ذمته . رواه البيهقي في سننه ، وإن كان التلف بيد السيد فكذلك على مقتضى كلام المجد ، وفي " المغني " ، و " الشرح " ، و " التلخيص " أنه يرجع إن شاء على السيد ، وإن شاء على العبد .

                                                                                                                          [ ص: 351 ] الحالة الثانية : أن يكون مأذونا له فما استدانه ببيع ، أو قرض فأشهر الروايات أنه يتعلق بذمة السيد ، لأنه غر الناس بمعاملته ، وقيده في " الوسيلة " بما إذا كان قدر قيمته ، والمذهب مطلقا ، ولا فرق في الذي استدانه بين أن يكون في الذي أذن فيه ، أو لا بأن يأذن له في التجارة في البر فيتجر في غيره ، لأنه لا ينفك أن يظن الناس أنه مأذون له في ذلك أيضا ، وعنه : يتعلق برقبة العبد كجنايته ، ولأنه قابض للمال ، المتصرف فيه ، المأذون له ، وعنه : يتعلق بذمة السيد لإذنه ورقبة العبد لقبضه ، وعنه : بذمته . ونقل صالح ، وعبد الله يؤخذ السيد بما ادان لما أذن له فيه فقط . ونقل ابن منصور إذا ادان ، فعلى سيده ، وإن جنى ، فعلى سيده ، وفي " الروضة " إذا أذن له مطلقا لزمه كلما ادان ، وإن قيده بنوع لم يذكر فيه استدانة فبرقبته كغير المأذون ، وبنى الشيخ تقي الدين الخلاف في أن تصرفه مع الإذن هل هو لسيده فيتعلق ما ادانه بذمته كوكيله ، أو لنفسه فيتعلق برقبته ؛ فيه روايتان ومحل الخلاف ما إذا ثبت ببينة أو إقرار السيد ، أما إذا أنكره السيد ، ولا بينة به ، فإنه يتعلق بذمة العبد إن أقر به ، وإلا فهو هدر . قاله الزركشي ، ومقتضى كلام الأكثر جريان الخلاف .

                                                                                                                          ( وإذا باع السيد عبده المأذون له شيئا لم يصح في أحد الوجهين ) هذا ظاهر المذهب ، لأنه مملوكه ، فلا يثبت له دين في ذمته كغير المأذون له ( وفي الآخر يصح إذا كان عليه دين بقدر قيمته ، لأنه إذا قلنا : إن الدين يتعلق برقبته فكأنه صار مستحقا لأصحاب الديون فيصير كعبد غيره ، وقيل : يصح مطلقا ( ويصح إقرار المأذون له في قدر ما أذن له فيه ) ، لأن مقتضى الإقرار الصحة [ ص: 352 ] ترك فيما لم يأذن له فيه سيده لحق السيد ، فوجب أن يبقى فيما عداه على مقتضاه ، وظاهره أنه لا يصح فيما زاد لما ذكرنا ( وإن حجر عليه ، وفي يده مال ، ثم أذن له فأقر به ، صح ) ، لأن المانع من صحة إقراره الحجر عليه ، وقد زال ، ولأن تصرفه فيه صحيح ، فصح إقراره به كالحر ، وقيل : لا يصح إلا في الشيء اليسير ( ولا يبطل الإذن بالإباق ) في الأصح ، لأنه لا يمنع ابتداء الإذن له في التجارة ، فلم يمنع استدامته ، كما لو غصبه غاصب ، أو حبس بدين عليه وكتدبير واستيلاد ، وقيل : يبطل به ، لأنه يزيل ولاية السيد عنه في التجارة بدليل أنه لا يجوز بيعه ، ولا هبته ، وجوابه : بأن سبب الولاية باق ، وهو الرق مع أنه يجوز بيعه وهبته لمن يقدر عليه ويبطل بالمغصوب ، وفيه بكتابة وحرية وأسر خلاف في " الانتصار " ، وفي " الموجز " ، و " التبصرة " يزول ملكه بحرية وغيرها كحجر على سيده ، وليس إباقه فرقة ، نص عليه .

                                                                                                                          فرع : له معاملة عبد ، ولو لم يثبت كونه مأذونا له خلافا للنهاية . نقل مهنا فيمن اشترى من عبد ثوبا فوجد به عيبا فقال العبد : أنا غير مأذون لي في التجارة لم يقبل منه ، لأنه إنما أراد أن يدفع عن نفسه ، ولو أنكر سيده إذنه يتوجه الخلاف ، وقال الشيخ تقي الدين : إن علم بتصرفه لم يقبل ، ولو قدر صدقه فتسليطه عدوانا منه فيضمن ، وفي طريقة بعض أصحابنا : التجار أتلفوا أموالهم لما لم يسألوا الولي ، إذ الأصل عدم الإذن للعبد ، وهو ظاهر .

                                                                                                                          ( ولا يصح تبرع المأذون له بهبة الدراهم وكسوة الثياب ) ونحوه ، لأن ذلك ليس من التجارة ، ولا يحتاج إليه كغير المأذون له ، وظاهره وإن قل ( ويجوز [ ص: 353 ] هديته للمأكول وإعارة دابته ) وعمل دعوة ونحوه بلا إسراف ، لأنه عليه السلام كان يجيب دعوة المملوك ، وروى أبو سعيد مولى أبي أسيد أنه تزوج فحضر دعوته جماعة من الصحابة منهم ابن مسعود ، وأبو حذيفة ، وأبو ذر فأمهم ، وهو يومئذ عبد . رواه صالح في مسائله ، ولأنه مما جرت به عادة التجار فيما بينهم فيدخل في عموم الإذن ، وقال في " النهاية " الأظهر أنه لا يجوز ، لأنه تبرع بمال مولاه ، فلم يجز كنكاحه وكمكاتب في الأصح ( وهل لغير المأذون الصدقة من قوته بالرغيف ونحوه إذا لم يضر به على روايتين ) أصحهما له ذلك بما لا يضره ، لأنه مما جرت العادة بالمسامحة فيه فجاز كصدقة المرأة من بيت زوجها ، والثانية : المنع منه ، لأن المال لسيده ، وإنما أذن له في الأكل ، فلم يملك الصدقة به كالضيف لا يتصدق بما أذن له في أكله .

                                                                                                                          مسألة : ما كسبه العبد غير المأذون من مباح ، أو قبله من هبة ووصية فلسيده ، وكذا اللقطة ، وقيل : لا يقبل الكل إلا بإذنه ، وإن قبل ، أو التقط وعرف بلا إذنه فهو للعبد إن قلنا : يملك بالتمليك ، ولا يصح قبول سيده عنه مطلقا ، فإن لم يملك - واختاره الأصحاب - فهو لسيده يعتقه ولسيده أخذه منه ، ولا يتصرف في ملكه إلا بإذن سيده ( وهل للمرأة الصدقة من بيت زوجها بغير إذنه بنحو ذلك ) أي : باليسير ( على روايتين ) المشهور في المذهب لها ذلك لما روت عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا أنفقت المرأة من طعام زوجها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجر ما كسب ، وللخازن مثل ذلك لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئا . متفق عليه ، ولم يذكر إذنا ، إذ [ ص: 354 ] العادة السماح ، وطيب النفس به إلا أن تضطرب العادة ويشك في رضاه ، أو يكون بخيلا ، ويشك في رضاه ، فلا يجوز ، والثانية : لا ، نقلها أبو طالب لما روى أبو أمامة الباهلي قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا تنفق المرأة شيئا من بيتها إلا بإذن زوجها قيل : يا رسول الله ، ولا الطعام قال : ذلك أفضل أموالنا . رواه سعيد ، ولأنها تبرعت بمال غيرها ، فلم يجز كالصدقة بثيابه ، والأول أصح ، لأن أحاديثها خاصة صحيحة فتقدم على غيرها ، والإذن العرفي كالحقيقي إلا أن يمنعها من التصرف فيه مطلقا وكمن يطعمها ، ولم يعلم رضاه ، ولم يفرق أحمد ، ويلحق بها من كان في بيته كجاريته وعبده المتصرف في بيت سيده لوجود المعنى فيه .




                                                                                                                          الخدمات العلمية