الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال ) وإذا ثبت حد الزنا على رجل بشهادة الشهود وهو محصن أو غير محصن ، فلما أقيم عليه بعضه هرب فطلبه الشرط فأخذوه في فوره أقيم عليه بقية الحد ; لأن الهروب غير مسقط عنه ما لزمه من الحد ، وأصله أن حد الزنا لا يقام بحجة البينة بعد تقادم العهد عندنا وكذلك كل حد هو محض حق الله تعالى وعند الشافعي رحمه الله تعالى يقام واعتبره بسائر الحقوق من حيث إن تقادم العهد غير مسقط عنه ما لزمه فاعتبر البينة بالإقرار فإن هذه الحدود تقام بالإقرار بعد تقادم العهد فكذلك بالبينة ; لأنها إحدى الحجتين .

( وحجتنا ) في ذلك حديث عمر رضي الله عنه حيث قال : أيما قوم شهدوا على حد لم يشهدوا عند حضرته فإنما هم شهود ضغن ، قال الحسن رحمه الله تعالى في حديثه : لا شهادة لهم ، والمغني أن الشاهد على هذه الأسباب مخير في الابتداء بين أن يستر عليه أو يشهد فلما أخر الشهادة عرفنا أنه مال إلى الستر ثم حملته العداوة على أن يترك الستر ويشهد عليه فلا تكون هذه شهادة بطريق الحسبة فلهذا لا تقبل بخلاف حد القذف فإن الشهادة عليه لا تقبل إلا بخصومة المقذوف وطلبه الحد فإنما أخروا أداء الشهادة لعدم الخصومة من المقذوف ولأن فيه بعض حق العباد وهو دفع العار عن المقذوف فمتى أقام الحجة عليه وجب الحكم به لدفع الضرر عنه .

ولا يدخل على هذا الكلام السرقة فإن الشهادة عليها لا تقبل قبل الخصومة ولكن خصومة المسروق منه هناك في المال لا في الحد وبعد تقادم العهد الشهادة مقبولة فيما فيه الخصومة له ، ولأن الحد هناك محض حق الله تعالى ، ولهذا صح الرجوع فيه عن الإقرار بخلاف حد القذف ، وحد الله تعالى أقرب إلى الدرء ; لأنه يتعالى عن أن يلحقه خسران أو ضرر وهذا بخلاف الإقرار ، فإن معنى الضغينة لا يتحقق في الإقرار بعد التقادم إذ الإنسان لا يعادي نفسه على وجه يحمله [ ص: 70 ] ذلك على الإقرار ولم يبين في الكتاب حد التقادم وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه قال : جهدت بأبي حنيفة رحمه الله تعالى كل الجهد فأبى أن يؤقت في التقادم وقتا ، وهذا ; لأن ذلك يختلف باختلاف أحوال الناس في البعد من القاضي والقرب وباختلاف عادة القاضي في الجلوس ، والتوقيت لا يكون بالرأي بل بالنص فلما لم يجد فيه نصا أبى أن يوقته بشيء ، وجعله موكولا إلى رأي القاضي .

وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنهم إذا شهدوا بعد سنة لا تقبل وأشار الطحاوي رحمه الله تعالى إلى ستة أشهر وهو الحين ، والأصح ما نقل عن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أنهما قدرا ذلك بشهر فقالا : ما دون الشهر قريب عاجل والشهر وما فوقه آجل كما بينا في الإيمان ، فإذا شهدوا به بعد شهر لا تقبل ، ولكن هذا إذا لم يكن بينهم وبين القاضي مسيرة شهر فإن كان ذلك وعلم أنه تأخر الأداء لبعدهم من مجلسه لا يكون ذلك قدحا في شهادتهم ، ولا يمتنع إقامة الحد به لحديث المغيرة رضي الله عنه فإنه كان واليا بالبصرة حين جاء الشهود إلى المدينة فشهدوا عليه بالزنا ، فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن سلم عملك إلى أبي موسى والحق بي ، ثم لما حضر قبل الشهادة عليه حتى قال بعد شهادة الواحد : أوه أودي ربع المغيرة ، فعرفنا أن التقادم إذا كان لعذر ظاهر لا يكون قدحا بالشهادة ، إذا عرفنا هذا قلنا في مسألة الكتاب ، وهو ما إذا هرب فوجد بعد أيام في القياس أنه لا يمتنع إقامة بقية الحد ; لأنه إنما تأخر لعذر وهو هربه فلا يكون ذلك قدحا في الشهادة ولكنه استحسن فقال العارض في هذه الحدود بعد الشهادة قبل الإتمام كالمقترن بالشهادة بدليل عمى الشهود وردتهم وهذا ; لأن التفريط هنا كان من أعوان الإمام حتى تمكن من الهرب منهم فالظاهر أنهم مالوا إلى اكتساب سبب درء الحد عنه ثم حملتهم العداوة على الجد في طلبه فكان هذا والضغينة في الشهود سواء

التالي السابق


الخدمات العلمية