الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
كذلك في اقتضاء الأعمال المثوبات والعقوبات حذو القذة بالقذة; فإنه إنما سمي «الثواب» لأنه يثوب إلى العامل من عمله، أي يرجع، و«العقاب» لأنه يعقب العمل، أي يكون بعده. ولو شاء أن لا يثيبه على ذلك العمل إما بأن لا يجعل في العمل خاصة تفضي إلى الثواب، أو بوجود أسباب تنفي ذلك الثواب، أو غير ذلك لفعل سبحانه. وكذلك في العقوبات.

وبيان ذلك: أن نفس الأكل والشرب باختيار العبد ومشيئته التي هي من فعل الله أيضا، وحصول الشبع في عقب الأكل ليس للعبد فيه صنع البتة، حتى لو أراد دفع الشبع بعد تعاطي الأسباب الموجبة له لم يطق.

وكذلك نفس العمل، هو بإرادته واختياره، فلو شاء أن يدفع أثر ذلك العمل وثوابه بعد وجود موجبه لم يقدر.

وهذه حكمة الله وسنته في جميع الأسباب في الدنيا والآخرة، لكن [ ص: 109 ] العلم بالأعمال النافعة في الدار الآخرة، والأعمال الضارة، أكثره غيب عن عقول الخلق، وكذلك مصير العباد ومنقلبهم بعد فراق روحهم هذه الدار; فبعث الله رسله، وأنزل كتبه، مبشرين ومنذرين; لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.

وحكمته في ذلك تضارع حكمته في خلق جميع الأسباب والمسببات، وما ذاك إلا أن علمه الأزلي ومشيئته النافذة وقدرته القاهرة اقتضت ما اقتضته، وأوجبت ما أوجبته، من مصير أقوام إلى جنته بالأعمال الموجبة لذلك; فخلقهم وخلق أعمالهم، وساقهم بتلك الأعمال إلى رضوانه. وكذلك أهل النار.

كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم لما قيل له: ألا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فقال: «لا، اعملوا; فكل ميسر لما خلق له. أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة».

فبين صلى الله عليه وسلم أن العبد قد ييسر للعمل الذي يسوقه الله به إلى السعادة، وكذلك الشقي تيسيره له هو نفس إلهامه ذلك العمل وتهيئة أسبابه. [ ص: 110 ]

وهذا هو نفس خلق أفعال العباد; فنفس خلق ذلك العمل هو السبب المفضي إلى السعادة أو الشقاوة، ولو شاء لفعله بلا عمل، بل هو فاعله; فإنه ينشئ للجنة خلقا لما يبقى فيها من الفضل.

يبقى أن يقال: ما الحكمة الكلية التي اقتضت ما اقتضته من الأسباب الأول، وحقيقة ما الأمر صائر إليه في عواقب العواقب، والتخصيصات والتمييزات الواقعة في الأشخاص والأعيان، إلى غير ذلك من كليات القدر التي لا تختص بمسألة خلق أفعال العباد؟ وليس هذا الاستفتاء معقودا لها، وتفسير جمل ذلك لا يليق بهذا الموضع، فضلا عن بعض تفصيله.

ويكفي العاقل أن يعلم أن الله عليم حكيم رحيم، بهرت الألباب حكمته، ووسعت كل شيء رحمته، وأحاط بكل شيء علمه، وأحصاه لوحه وقلمه، وأن لله في قدره سرا مصونا، وعلما مخزونا، اختزنه دون جميع خلقه، واستأثر به على جميع بريته، وإنما يصل أهل العلم به، وأرباب ولايته إلى جمل من ذلك وجوامع وكليات، قد يؤذن لبعضهم في إفشاء شيء من جمل ذلك وقد [ ص: 111 ] لا يؤذن، وربما كلم الناس في ذلك على قدر عقولهم.

وقد سأل موسى وعيسى وعزير ربنا تبارك وتعالى عن شيء من سر القدر، وأنه لو شاء أن يطاع لأطيع، ولو شاء أن لا يعصى لما عصي، وأنه قد أمر أن يطاع، وأنه مع ذلك يعصى، فأخبرهم سبحانه أن هذا سره، وأنه لا يسأل عن سره.

وفي هذا المقام تاهت عقول كثير من الخلائق، وفيه ضل القائلون بقدم العالم، وأن صانعه موجب بذاته، ومقتض بنفسه اقتضاء العلة للمعلول، وأنه ليس في الإمكان أبدع مما صنع.

ودب هذا الداء إلى بعض أهل الكتاب وأتباع الرسل; فزعم انحصار الممكن في الموجود، وكل ذلك طلبا للاستراحة من مؤونة تعليل الأفعال الإلهية، ووجود الأسباب الحادثة للأمور الحادثة.

وعلله أهل القدر بعللهم العليلة في التعديل والتجوير، ووجوب [ ص: 112 ] رعاية الصالح أو الأصلح.

ولم يستقم لواحد من الفريقين أصلهم، ولم تطرد عللهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية