الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ونختم الكلام بكلام وجيز في سبب الفرق بين الخلق والكسب، فنقول: الخلق يجمع معنيين:

أحدهما: الإبداع والبرء.

والثاني: التقدير والتصوير.

فإذا قيل: «خلق» فلا بد من أن يكون أبدع إبداعا مقدرا، ولما كان الله سبحانه وتعالى أبدع جميع الأشياء من العدم، وجعل لكل شيء قدرا، صح إضافة الخلق إليه بالقول المطلق.

والتقدير في المخلوق لازم; إذ هو عبارة عن تحديده والإحاطة به، وهذا [ ص: 118 ] لازم لجميع الكائنات، لا كما زعم من حسب أن الخلق يختص ذوات المساحة، وهي الأجسام، مفرقا بين الخلق والأمر بذلك; فإنه قول باطل مبتدع.

والأمر هو كلامه، كما فسره الأولون.

والخلق مصنوعاته، وقد يجعل الخلق بإزاء إبداع الصور الذهنية وتقديرها، ومنه تسمية الكذب «اختلاقا» ; إذ هو صور ذهنية ليس لها حقيقة خارجة عن الذهن واللسان.

وربما جعل الخلق بمعنى التقدير فقط، مقطوعا عنه النظر إلى الإبداع، كما قال: [ ص: 119 ]


ولأنت تفري ما خلقت

وكما قال عيسى في تمثال صنعه: «أنا خلقته»، ولو قيل: هو عائد إلى الأول من حيث إن تلك الصورة مبدعة لكان قولا.

فلما كان هذا المعنى لا يكون إلا لله صح وصفه سبحانه بأنه خالق كل شيء.

وأما الكسب، فقد ذكرنا أنه إنما ينظر فيه إلى تأثيره في محله، ولو لم يكن له عليه قدرة أصلا، فكيف بما له عليه قدرة ؟!

حتى يقال: الثوب قد اكتسب من ريح المسك، والمسجد قد اكتسب الحرمة من أفعال العابدين، والجلد اكتسب الحرمة بمجاورة المصحف، والثمرة قد اكتسبت لونا وريحا وطعما; فكل محل تأثر عن شيء تأثرا ملائما أو منافرا صح وصفه بالاكتساب، بناء على تأثره وتغيره وتحوله من حال إلى حال. [ ص: 120 ]

والإنسان يتأثر عن الأفعال الاختيارية ولا يتأثر عن الأفعال الاضطرارية، وتورثه أخلاقا وأحوالا على أي حال كان، حتى على رأي من يطلق اسم «الجبر» على مجموع أفعاله; فإنه يستيقن تأثير الأفعال الاختيارية في نفسه، بخلاف الاضطرارية، اللهم إلا من حيث قد توجب الأفعال الاضطرارية أمرا في نفسه، فيكون ذلك اختيارا.

ثم اعلم أن الاضطرار إنما يكون في بدنه بدون قلبه، إما بفعل الله كالأمراض والأسقام، وإما بفعل العباد، كالقيد والحبس.

وأما أفعال روحه المنفوخة فيه إذا حركت بدنه فهي كلها اختيارية، ومن وجه -قد بيناه- كلها اضطرارية; فاضطرارها هو عين الاختيار، واختيارها إنما هو بالاضطرار.

وحقيقة الاضطرار هو أن يخلق فيها الاختيار، وربما أحبت من وجه وكرهت من وجه، لكن هذا كله لا يمنع ورود التكليف واقتضاء الثواب والعقاب، كما قد أومأنا إليه.

هذا الذي تيسر كتابته في هذه الحال، والله يقول الحق وهو يهدي إلى [ ص: 121 ] سواء السبيل، والحمد لله، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم تسليما.

آخر ما وجد بخطه، ومنه نقل الإمام شمس الدين محمد ابن المحب المقدسي الحنبلي تغمده الله تعالى برحمته، وقال: إنه وجده في درج، وفي ظهره مكتوب ما صورته بخطه أيضا:

الحمد لله.

وضل بالأسباب خلق كالتراب، كما هدي إلى حقيقتها أولو الألباب، فمن هنا ضل الطبائعيون القاصرون نظرهم على الطبائع المخلوقة في الأجسام; إذ نسبوا إليها التأثير على الكمال والتمام، والمنجمون الناظرون إلى حركة الكواكب والأفلاك، حين حسبوا أن لها في ذلك شركا من الأشراك، والصابئة الزائغون أبصارهم إلى حقيقة الأرواح، ولكن وقفوا عندها فحادوا عن سنن الفلاح.

وكان شيطان القدرية فيما رأوه من الحركات الاختيارية شيطانا مريدا، فضلوا من حيث ظنوا الهدى ضلالا بعيدا.

التالي السابق


الخدمات العلمية