الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر استيلاء خوارزم شاه على بلاد الغورية بخراسان

قد ذكرنا مكاتبة الحسين بن خرميل - والي هراة - خوارزم شاه ، ومراسلته في الانتماء إليه والطاعة له ، وترك طاعة الغورية ، وخداعه لغياث الدين ، ومغالطته له بالخطبة له والطاعة ، انتظارا لوصول عسكر خوارزم شاه ، ووصول رسول غياث الدين وابن زياد بالخلع إلى ابن خرميل ، فلما وصلت الخلع إليه لبسها هو وأصحابه ، وطالبه [ ص: 226 ] رسول غياث الدين بالخطبة ، فقال : يوم الجمعة نخطب له .

فاتفق وقرب عسكر خوارزم شاه منهم ، فلما كان يوم الجمعة قيل له في معنى الخطبة ، فقال : نحن في شغل أهم منها بوصول هذا العدو ، فطالت المجادلات بينهم في ذلك ، وهو مصر على الامتناع منها ، ووصل عسكر خوارزم شاه ، فلقيهم ابن خرميل ، وأنزلهم على باب البلد ، فقالوا له : قد أمرنا خوارزم شاه أن لا نخالف لك أمرا ، فشكرهم على ذلك ، وكان يخرج إليهم كل يوم ، وأقام لهم الوظائف الكثيرة .

وأتاه الخبر أن خوارزم شاه نزل على بلخ فحاصرها ، فلقيه صاحبها ، وقاتله بظاهر البلد ، فلم ينزل بالقرب منها ، فنزل على أربعة فراسخ ، فندم ابن خرميل على طاعة خوارزم شاه ، وقال لخواصه : لقد أخطأنا حيث صرنا مع هذا الرجل ، فإنني أراه عاجزا .

وشرع في إعادة العسكر ، فقال للأمراء : إن خوارزم شاه قد أرسل إلى غياث الدين يقول له : إنني على العهد الذي بيننا ، وأنا أترك ما كان لأبيك بخراسان ، والمصلحة أن ترجعوا حتى ننظر ما يكون ، فعادوا ، وأرسل إليهم الهدايا الكثيرة .

وكان غياث الدين حيث اتصل به وصول عسكر خوارزم شاه إلى هراة ، فأخذ إقطاع ابن خرميل ، وأرسل إلى كرزبان ، وأخذ كل ما له بها من مال ، وأولاد ، ودواب ، وغير ذلك ، وأخذ أصحابه في القيود ، وأتاه كتب من يميل إليه من الغورية يقولون له : إن رآك غياث الدين قتلك .

ولما سمع أهل هراة بما فعل غياث الدين بأهل ابن خرميل وماله عزموا على قبضه والمكاتبة إلى غياث الدين بإنقاذ من يتسلم البلد ، وكتب القاضي صاعد ، قاضي هراة ، وابن زياد إلى غياث الدين بذلك ، فلما سمع ابن خرميل بما فعله غياث الدين بأهله ، وبما عزم عليه أهل هراة ، خاف أن يعاجلوه بالقبض ، فحضر عند القاضي ، وأحضر أعيان البلد ، وألان لهم القول ، وتقرب إليهم ، وأظهر طاعة غياث الدين ، وقال : قد رددت عسكر خوارزم شاه ، وأريد [ أن ] أرسل رسولا إلى غياث ( الدين بطاعتي ) ، والذي أوثره منكم أن تكتبوا معه كتابا بطاعتي . فاستحسنوا قوله وكتبوا [ ص: 227 ] له بما طلب ، وسير رسوله إلى فيروزكوه ، وأمره ، إذا جنه الليل ، أن يرجع على طريق نيسابور ويلحق عسكر خوارزم شاه ويجد السير ، فإذا لحقهم ردهم إليه .

ففعل الرسول ما أمره ، ولحق العسكر على يومين من هراة ، فأمرهم بالعود ، فعادوا ، فلما كان اليوم الرابع من سير الرسول وصلوا إلى هراة والرسول بين أيديهم ، فلقيهم ابن خرميل ، وأدخلهم البلد والطبول تضرب بين أيديهم ، فلما دخلوا أخذ ابن زياد الفقيه فسمله ، وأخرج القاضي صاعدا من البلد ، فسار إلى غياث الدين بفيروزكوه ، وأخرج من عنده من الغورية ، وكل من يعلم أنه يريدهم ، وسلم أبواب البلد إلى الخوارزمية .

وأما غياث الدين فإنه برز عن فيروزكوه نحو هراة ، وأرسل عسكرا ، فأخذوا جشيرا كان لأهل هراة ، فخرج الخوارزمية ، فشنوا الغارة على هراة الروذ وغيرها ، فأمر غياث الدين عسكره بالتقدم إلى هراة ، وجعل المقدم عليهم علي بن أبي علي ، وأقام هو بفيروزكوه لما بلغه أن خوارزم شاه على بلخ ، فسار العسكر وعلى يزكه الأمير أميران بن قيصر الذي كان صاحب الطالقان ، وكان منحرفا عن غياث الدين حيث أخذ منه الطالقان ، فأرسل إلى ابن خرميل يعرفه أنه على اليزك ، ويأمره بالمجيء إليه ، فإنه لا يمنعه ، وحلف له على ذلك .

فسار ابن خرميل في عسكره ، فكبس عسكر غياث الدين ، فلم يلحقوا يركبون خيولهم حتى خالطوهم ، فقتلوا فيهم ، فكف ابن خرميل أصحابه عن الغورية خوفا أن يهلكوا ، وغنم أموالهم وأسر إسماعيل الخلجي ، وأقام بمكانه ، وأرسل عسكره فشنوا الغارة على البلاد باذغيس وغيرها .

وعظم الأمر على غياث الدين ، فعزم على المسير إلى هراة بنفسه ، فأتاه الخبر أن علاء الدين ، صاحب باميان ، قد عاد إلى غزنة - على ما نذكره - ، فأقام ينتظر ما يكون منهم ومن ألدز .

وأما بلخ فإن خوارزم شاه لما بلغه قتل شهاب الدين أخرج من كان عنده من الغوريين الذين كان أسرهم في المصاف على باب خوارزم ، فخلع عليهم ، وأحسن [ ص: 228 ] إليهم ، وأعطاهم الأموال ، وقال : إن غياث الدين أخي ، ولا فرق بيني وبينه ، فمن أحب منكم المقام عندي فليقم ، ومن أحب أن يسير إليه فإنني أسيره ، ولو أراد مني مهما أراد نزلت له عنه .

وعهد إلى محمد بن علي بن بشير ، وهو من أكابر الأمراء الغورية ، فأحسن إليه ، وأقطعه استمالة للغورية ، وجعله سفيرا بينه وبين صاحب بلخ ، فسير أخاه عليا شاه بين يديه في عسكره إلى بلخ ، فلما قاربها خرج إليه عماد الدين عمر بن الحسن الغوري أميرها ، فدفعه عن النزول عليها ، فنزل على أربعة فراسخ عنها ، فأرسل إلى أخيه خوارزم شاه يعلمه قوتهم ، فسار إليها في ذي القعدة من السنة ، فلما وصل إلى بلخ خرج صاحبها فقاتلهم ، فلم يقو بهم لكثرتهم ، فنزلوا فصار يوقع بهم ليلا ، فكانوا معه على أقبح صورة ، فأقام صاحب بلخ محاصرا ، وهو ينتظر المدد من أصحابه أولاد بهاء الدين ، صاحب باميان ، وكانوا قد اشتغلوا عنه بغزنة على ما نذكره .

فأقام خوارزم شاه على بلخ أربعين يوما ، كل يوم يركب إلى الحرب ، فيقتل من أصحابه كثير ، ولا يظفر بشيء فراسل صاحبها عماد الدين مع محمد بن علي بن بشير الغوري في بذل بذله له ليسلم إليه البلد ، فلم يجبه إلى ذلك ، وقال : لا أسلم البلد إلا إلى أصحابه ، فعزم على المسير إلى هراة ، فلما سار أصحابه أولاد بهاء الدين ، صاحب باميان ، إلى غزنة ، المرة الثانية - على ما نذكره إن شاء الله تعالى - وأسرهم تاج الدين ألدز ، عاد عن ذلك العزم ، وأرسل محمد بن علي بن بشير إلى عماد الدين نائبه يعرفه حال أصحابه وأسرهم ، وأنه لم يبق عليه حجة ، ولا له في التأخر عنه عذر ، فدخل إليه ، ولم يزل يخدعه ، تارة يرغبه وتارة يرهبه حتى أجاب إلى طاعة خوارزم شاه والخطبة له ، وذكر اسمه على السكة ، وقال : أنا أعلم أنه لا يفي لي ، فأرسل من يستحلفه على ما أراد ، فتم الصلح ، وخرج إلى خوارزم شاه ، فخلع عليه ، وأعاده إلى بلده ، وكان سلخ ربيع الأول سنة ثلاث وستمائة .

ثم سار خوارزم شاه إلى كرزبان ليحاصرها ، وبها علي بن أبي علي ، وأرسل إلى غياث الدين يقول : إن هذه كان قد أقطعها عمك لابن خرميل ، فتنزل عنها ، فامتنع ، وقال : بيني وبينكم السيف ، فأرسل إليه خوارزم شاه مع محمد بن علي بن بشير [ ص: 229 ] فرغبه ، وآيسه من نجدة غياث الدين ، ولم يزل به حتى نزل عنها وسلمها ، وعاد إلى فيروزكوه ، فأمر غياث الدين بقتله ، فشفع فيه الأمراء ، فتركه . وسلم خوارزم شاه كرزبان إلى ابن خرميل ، ثم أرسل إلى عماد الدين ، صاحب بلخ يطلبه إليه ، ويقول : قد حضر مهم ولا غنى عن حضورك ، فأنت اليوم من أخص أوليائنا . فحضر عنده ، فقبض عليه وسيره إلى خوارزم ، ومضى هو إلى بلخ ، فأخذها واستناب بها جعفرا التركي .

التالي السابق


الخدمات العلمية