الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر فتح برزية

لما دخل صلاح الدين من قلعة الشغر سار إلى قلعة برزية ، وكانت قد وصفت [ ص: 54 ] له ، وهي تقابل حصن أفامية ، وتناصفها في أعمالها وبينهما بحيرة تجتمع من ماء العاصي ، وعيون تتفجر من جبل برزية وغيره ، وكان أهلها أضر شيء على المسلمين ، يقطعون الطريق ، ويبالغون في الأذى .

فلما وصل إليها نزل شرقيها في الرابع والعشرين من جمادى الآخرة ، ثم ركب من الغد وطاف عليها لينظر موضعا يقاتلها منه . فلم يجده إلا من جهة الغرب فنصب له هناك [ خيمة ] صغيرة ونزل فيها ومعه بعض العسكر جريدة لضيق المواضع .

وهذه القلعة لا يمكن أن تقاتل من جهة الشمال والجنوب البتة ، فإنها لا يقدر أحد أن يصعد جبلها من هاتين الجهتين ، وأما الجانب الشرقي فيمكن الصعود منه لكن لغير مقاتل ، لعلوه وصعوبته ، وأما جهة الغرب فإن الوادي المطيف بجبلها قد ارتفع هناك ارتفاعا كثيرا ، حتى قارب القلعة ، بحيث يصل منه حجر المنجنيق والسهام فنزله المسلمون ونصبوا عليه المجانيق ، ونصب أهل القلعة عليها منجنيقا بطلها .

ورأيت أنا من رأس جبل عال يشرف على القلعة ، لكنه لا يصل منه شيء إليها ، امرأة ترمي من القلعة عن المنجنيق ، وهي التي بطلت منجنيق المسلمين ، فلما رأى صلاح الدين أن المنجنيق لا ينتفعون به ، عزم على الزحف ، ومكاثرة أهلها بجموعه .

فقسم عسكره ثلاثة أقسام : يزحف قسم ، فإذا تعبوا وكلوا عادوا وزحف القسم الثاني ، فإذا تعبوا وضجروا عادوا وزحف القسم الثالث ، ثم يدور الدور مرة بعد أخرى حتى يتعب الفرنج وينصبوا ، فإنهم لم يكن عندهم من الكثرة ما يتقسمون كذلك ، فإذا تعبوا وأعيوا سلموا القلعة .

فلما كان الغد ، وهو السابع والعشرون من جمادى الآخرة ، تقدم أحد الأقسام ، وكان المقدم عليهم عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي ، صاحب سنجار ، وزحفوا ، وخرج الفرنج من حصنهم ، فقاتلهم على فصيلهم ، ورماهم المسلمون بالسهام من وراء الجفتيات والجنويات والطارقيات ، ومشوا إليهم حتى قربوا إلى الجبل .

فلما قاربوا الفرنج عجزوا عن الدنو منهم لخشونة المرتقى وتسلط الفرنج عليهم ، لعلو مكانهم ، بالنشاب والحجارة ، ‌‌فإنهم كانوا يلقون الحجارة الكبار فتتدحرج إلى أسفل الجبل ، فلا يقوم لها شيء .

[ ص: 55 ] فلما تعب هذا القسم انحدروا ، وصعد القسم الثاني ، وكانوا جلوسا ينتظرونهم ، وهم حلقة صلاح الدين الخاص ، فقاتلوا قتالا شديدا ، وكان الزمان حرا شديدا ، فاشتد الكرب على الناس ، وصلاح الدين في سلاحه يطوف عليهم ويحرضهم وكان تقي الدين ابن أخيه كذلك ، فقاتلوهم إلى قريب الظهر ثم تعبوا ، ورجعوا .

فلما رآهم صلاح الدين قد عادوا تقدم إليهم وبيده جماق يردهم ، وصاح في القسم الثالث ، وهم جلوس ينتظرون نوبتهم ، فوثبوا ملبين ، وساعدوا إخوانهم وزحفوا معهم ، فجاء الفرنج ما لا قبل لهم به .

وكان أصحاب عماد الدين قد استراحوا فقاموا أيضا معهم ، فحينئذ اشتد الأمر على الفرنج وبلغت القلوب الحناجر ، وكانوا قد اشتد تعبهم ونصبهم ، فظهر عجزهم عن القتال وضعفهم عن حمل السلاح لشدة الحر والقتال ، فخالطهم المسلمون فعاد الفرنج يدخلون الحصن ، فدخل المسلمون معهم .

وكان طائفة قليلة في الخيام شرقي الحصن فرأوا الفرنج قد أهملوا ذلك الجانب ، لأنهم لا يرون فيه مقاتلا ، وليكثروا في الجهة التي فيها صلاح الدين فصعدت تلك الطائفة من العسكر فلم يمنعهم مانع .

فصعدوا أيضا الحصن من الجهة الأخرى فالتقوا مع المسلمين الداخلين مع الفرنج فملكوا الحصن عنوة وقهرا ودخل الفرنج القلة التي للحصن ، وأحاط بها المسلمون وأرادوا نقبها .

وكان الفرنج قد رفعوا من عندهم من أسرى المسلمين إلى سطح القلة ، وأرجلهم في القيود والخشب المنقوب ، فلما سمعوا تكبير المسلمين في نواحي القلعة كبروا في سطح القلة ، وظن الفرنج أن المسلمين قد صعدوا على السطح فاستسلموا ، وألقوا بأيديهم إلى الأسر ، فملكها المسلمون عنوة ، ونهبوا ما فيها ، وأسروا وسبوا من فيها ، وأخذوا صاحبها وأهله ، وأمست خالية لا ديار بها ، وألقى المسلمون النار في بعض بيوتهم فاحترقت .

ومن أعجب ما يحكى من السلامة أنني رأيت رجلا من المسلمين على هذا الحصن قد جاء من طائفة من المؤمنين شمالي القلعة إلى طائفة أخرى من المسلمين جنوبي القلعة . وهو يعدو في الجبل عرضا ، فألقيت عليه الحجارة ، وجاء حجر كبير لو ناله لبعجه .

فنزل عليه ، فناداه الناس يحذرونه ، فالتفت ينظر ما الخبر . فسقط على وجهه من عثرة ، فاسترجع الناس ، وجاء الحجر إليه ، فلما قاربه وهو منبطح [ ص: 56 ] على وجهه لقيه حجر آخر ثابت في الأرض فوق الرجل ، فضربه المنحدر فارتفع عن الأرض ، وجاز الرجل ثم عاد إلى الأرض من جانبه الآخر لم ينله منه أذى ولا ضرر ، وقام يعدو حتى لحق بأصحابه فكان سقوطه سبب نجاته فتعست أم الجبان .

وأما صاحب برزية ، فإنه أسر هو وامرأته وأولاده ، ومنهم بنت له معها زوجها ، فتفرقهم العسكر ، فأرسل صلاح الدين في الوقت وبحث عنهم واشتراهم ، وجمع شمل بعضهم ببعض ، فلما قارب أنطاكية أطلقهم وسيرهم إليها .

وكانت امرأة صاحب برزية أخت امرأة بيمند صاحب أنطاكية ، وكانت تراسل صلاح الدين وتهاديه ، وتعلمه كثيرا عن الأحوال التي تؤثر ، فأطلق هؤلاء لأجلها .

التالي السابق


الخدمات العلمية