الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                الركن الثالث : السرقة : وهي الإخراج ، وفيه طرفان : الطرف الأول : في وجوه النقل . وقد تقدم في الحرابة أن أخذ المال عشرة أقسام ، أحدها ، المسر ، وفيه ثلاثة فروع :

                                                                                                                الأول : في الكتاب : إذا سرق جماعة ما تعاونوا على إخراجه من الحرز ; لثقله ، قطعوا إن كان قيمته نصابا ، وإن حملوه على ظهر أحدهم ; ليخرج به ، ولم يقدر على إخراجه إلا برفعهم معه ، قطعوا وإلا قطع الخارج به وحده ; لأنه السارق ، ولا يقطع من أعانه ، وإن خرج كل واحد بشيء وهم شركاء في المخرج ، لم يقطع إلا من أخرج نصابا ، قال ابن يونس : قال عبد الملك : إن خرجوا بالشيء الخفيف يحملونه كالثوب ، وفي قيمته لكل واحد ربع دينار ، قطعوا ، أو أقر ، لم يقطعوا لأن كل واحد [ ص: 170 ] سرق دون النصاب ، وقاله مالك : قال اللخمي : وقيل الخفيف كالثقيل كأن لا يخرجه إلا اثنان ، فأخرجه أربعة ، جرى على الخلاف في الخفيف ، وإذا لم يستطع إخراجها إلا بحمل الجماعة عليه ، قال أبو مصعب : يقطع المخرج وحده ; لأن غيره متوسل لا سارق ، ( خلاف ما في الكتاب ) . ووافقوا إذا حملوها على ظهر دابة ، أنهم يقطعون ، وقد اختلف في هذا الأصل : إذا قربوه فجره الخارج بيده ، أو ربطوه فجره ، بالقطع وعدمه ، وإن حملوه على صبي أو مجنون ، فكالدابة . وإن أخرجها من غير أن يأمروه ، لم يقطعوا ، فإن سرق أحدهم دينارا فقضاه لأحدهم قبل أن يخرجوا ، فأودعه إياه ، قال محمد : يقطع من خرج ، وكذلك لو باعه ثوبا في الحرز ، ولو دخل رجل على السارق ، فباعه ثوبا ، فخرج المشتري ، ولم يعلم أنه سارق ، لم يقطع واحد منهما ، فإن أخذ في الحرز وقد ائتزر بإزار ، فانفلت به عليه ، قال ابن القاسم : لا يقطع ، علم به أهل البيت أم لا ; لأنه مختلس ، فإن قال كل واحد منهم : ما أخرجها إلا الآخر ، وأنكر الكل ، وتنازعوا ، لم يقطعوا ، ويستظهر في ذلك باليمين رجاء الإقرار ، إلا أن يكون فيهم من يراد ستره ، فلا يحلف ، ويحلف الباقون .

                                                                                                                الثاني : في الكتاب : إذا جمع المتاع وأدرك في الحرز قبل الخروج ، لم يقطع ، وإن كانت دار مأذون فيها وفيها تابوت مغلق ، فأخذ رجل مأذون له متاع ذلك التابوت ، فأخذ قبل أن يخرج به ، لا يقطع ; لأجل الإذن ، وإن كان ممن لم يؤذن له ، لم يقطع أيضا ; لأنه لم يبرح بالمتاع . وإذا نقب فأخرج بعود ، قطع ، وإن دخل وناول آخر خارجه ، قطع الداخل وحده أخذ في الحرز أو خارجه ; لأن المخرج والخارج آلة له . وإن أخذ في الحرز بعد أن ألقى المتاع خارج الحرز ، توقف فيه مالك بعد أن قال : يقطع ، قال ابن القاسم : وأنا أرى أن يقطع ; لأنه يخرج ، وإن ربطه الداخل بحبل ، وجره الخارج ، قطعا جميعا ، وإن ناوله أحدهما صاحبه وهما في الدار ، لم يقطع إلا المخرج ، [ ص: 171 ] وإن قربه إلى باب الحرز أو النقب ، فتناوله ، الخارج ، قطع وحده ; لأنه المخرج ، فإن التقت أيديهما في المناولة في وسط النقب ، قطعا معا ، قال ابن يونس : قال عبد الملك : إذا رمى بالمتاع في الحرز ، فأتلفه قبل خروجه ، ففر من الحرز قاصدا لإتلافه ، كرميه في نار ، لم يقطع ; لأنه لم يخرج به من الحرز ، أو قاصدا أخذه بعد الخروج ، قطع ، وإن أخذ في الحرز ; لأنه قصد السرقة . والفرق عند ابن القاسم بين المتناول للسرقة من الداخل ، لا يقطع الداخل ، وبين المار بالحبل ، يقطع الداخل ، أن المتناول منه كما لو كانا جميعا في الحرز ، فناول أحدهما الآخر شيئا ، فخرج ، لا يقطع إلا الخارج ، وربط الحبل من عمل الداخل ، فقد استويا في الإخراج فيقطعان . ورأى أشهب أن المناولة كالرباط ، قال مالك : إن أشار للشاة بالعلف ، لا يقطع ; لأن خرجها بإرادتها ، وقطعه ابن القاسم ; لأنه مكره لها بذلك . قال اللخمي : اختلف في ثمان مسائل : تقريبها إلى النقب ، ويخرجها من هو خارج الحرز ، والربط لمن هو خارج ، والربط لمن هو على سقف البيت ، والرابعة : رميها فتؤخذ قبل أن يخرج هو ، والخامسة : يرميها فتهلك خارجا ، والسادسة : أن يسرق بإدخال يده ، والسابعة : الإشارة إلى طائر أو أعجمي بشيء ، فيخرج ، والثامنة : حمل المتاع وهو في الحرز على غيره . وخالف أشهب بالقطع في المقرب للنقب ، وقطعهما معا ، وقطع ابن القاسم الخارج وحده ، إلا أن تلتقي أيديهما في النقب ، فيقطعان ، قال محمد : إذا لم يبن به على السطح ، لم يقطع ; لأن السطح من الحرز ، كداخله . قال مالك في ثلاثة أحدهم في الحرز والآخر على ظهره ، والآخر في الطريق ، فناول الأسفل الذي على ظهره ، وناول الثاني [ ص: 172 ] الذي في الطريق ، قطع الأولان دون الثالث ; لأنه ليس في الحرز ، إلا أن يمد يده حتى يصير فوق ظهر البيت ، فيقطع الكل ، قال اللخمي : قطع الذي في أسفل البيت ليس بالبين ; لأنه لم يخرج ، فقطع العلي وحده إذا مد يده إلى من في الطريق ، أو مد الخارج يده فوق السطح . وقطع مالك في الشاة والأعجمي ; لأن فعلهما أخرجهما من الحرز ، ولو كان بالرطانة للأعجمي . ومنع ابن نافع في الرطانة إن دعاه فأطاعه ، بخلاف لو غره ، كقوله : سيدك بعثني إليك .

                                                                                                                الثالث ، في الكتاب : إن أكل الطعام في الحرز ، لم يقطع وضمنه ، وإن دهن رأسه ولحيته وخرج ، وقيمة ما يمكن سلته عنه نصاب ، قطع ; لأنه الذي أخرجه ، وإلا لم يقطع ، وإن ذبح شاة ، أو أحرق ثوبا ، أو أفسد طعاما في الحرز ، إنما ينظر إلى قيمته بعد الإخراج ، وقاله ( ش ) ، وقال ( ح ) : لا يقطع . لنا : العمومات ، والقياس على إخراجها عنه . احتج بأنه لزمه الضمان ، فلا يقطع ، فيما لزمه . وجوابه : أن القيمة إنما تلزم بعد الحكم . قال ابن يونس : في العتبية : لو ابتلع دينارا في الحرز وخرج ، قطع ; لأنه خرج به ، ويخرج منه فيأخذه ، قال محمد : وتضمينه ما يخرج بالثلث وهو نصاب ، ضمنه في يسره دون عدمه إذ فيه قطع ، والزائد على ذلك يضمنه في عدمه وملائه ، ويحاص به غرماءه . وفي الموازية : إن خرج بالشاة مذبوحة وله مال يوم السرقة ، يضمن قيمتها حية ، وإن لم يكن له مال ، اتبع بما بين قيمتها حية ، وقيمتها مذبوحة ; لأن ما أفسده في الحرز من كسر جرة زيت ، أو حرق ثوب ضمن قيمته إذا قطع ، له مال أم لا ; لأنه ليس فيه قطع ، وإنما القطع في المخرج ، فإن لم تكن قيمة [ ص: 173 ] الجميع نصابا ، أتبع بالجميع في ملائه وعدمه ، وإلا إن أراد رب الثوب أخذه محروقا ، سقط الضمان ، وإن دخل بثوب الحرز ، فصبغه بزعفران وخرج به ، فإن زادت قيمته يوم الخروج نصابا ، قطع ، بخلاف الدهن في الرأس ; لأنه لا يزيد في قيمة المدهون ، وإن كان عبدا ، ويضمن الزعفران كله في ملائه ، وإن كان عديما وقد قطع ، فلا يسقط قيمته الزائد ; لأنه عين قائمة ، ولم يهلك الثوب ، وقيمة باقي الزعفران يأخذه من باقي ثمن الثوب إن لم يكن على السارق دين ، وإلا تحاصوا ، ولو أخرج الزعفران ، فصبغ به خارج الحرز ، فرب الزعفران أولى بالثوب حتى يقتطع ما زاد فيه الصبغ . والغرماء أحق بما بقي من الثوب ، وإن لم يزد الزعفران في قيمة الثوب وقطع فيه وهو عدم ، لا ينتفع بشيء منه ، وغرماءه أحق بالثوب ، بخلاف لو سرق ثوبا ، فصبغه بزعفران نفسه فلم يزده ، لا شيء عليه لغرمائه مع صاحب الثوب ، وفيه اختلاف ، فإن سرق زعفرانا فصبغ به ثوبه فباعه ، فرب الزعفران أحق بالثوب في عدمه حتى يستوفي ما زاده صبغه على قيمته أبيض ، وكذلك لو باعه المبتاع من ثان ، أو ثان من ثالث ; لأنه عين شبه ، والبائع متعد ، بخلاف بائع ثوبه الذي صبغه له الصباغ ليس للصباغ فيه طلب بصبغه ; لأنه غير متعد في البيع ، فهو كما لو اشترى سلعة فباعها ، فإن أفسده في الحرز وأخرجه وقيمته نصاب ، ليس لربه أخذه في الفساد الكثير ، ويتبعه بما نقص ; لأنه لا يسلم إليه إلا بعد وجوب القطع . وله أخذه بما لزمه داخل الحرز إلا أن يكون على السارق دين ، فليحاصص ، وله أخذه في عين الفساد الكثير ، ويتبعه بما نقص بفعله في الحرز ; لأنه خيانة قبل السرقة ، وإن أخرجه وأفسده فسادا كثيرا ، لا يأخذه ، وما نقصه عند أشهب ، بل قيمته يوم سرقه ، أو يأخذه مفسودا [ ص: 174 ] بغير شيء ; لأنه أحدث ذلك بعد ضمانه ، وإن سرق أمة عجمية ، وأصابها عنده عيب مفسد ، تلزمه به قيمته يوم السرقة ، فوطئها ، حد للسرقة والزنا إن كان بكرا وإلا رجم ، ولم يقطع ، ولا تصير الأعيان له إذا جنى عليها حتى يقضى عليه بالقيمة . وفي الجواهر : إن وضع المتاع على الماء فخرج من الحرز ، أو فتح أسفل المكارح حتى ذهب ما فيه من حب ، أو وضعه على ظهر دابة ، فخرجت به ، قطع ; لأن ذلك كله عن عمله ، وبه خرج .

                                                                                                                الطرف الثاني : المنقول إليه . وفي الجواهر : لا يقطع بالنقل من زاوية إلى زاوية ، بل من الحرز إلى ما ليس بحرز .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية