الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( تتمة في ذكر مكان الجنة والنار ، وأين هما على مقتضى الآثار ) .

اعلم أن الجنة فوق السماء السابعة ، وسقفها عرش الرحمن كما قال جل شأنه في محكم القرآن ( ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى ) وقد ثبت أن سدرة المنتهى فوق السماء السابعة وسميت بذلك لأنها ينتهي إليها ما ينزل من عند الله فيقبض منها ، وما يصعد إليه فيقبض منها ، وقال تعالى : ( وفي السماء رزقكم وما توعدون ) قال ابن أبي نجيح عن مجاهد : هو الجنة - وتلقاه الناس عنه .

وذكر ابن المنذر في تفسيره عن مجاهد قال : هو الجنة والنار . وقد أخرج أبو نعيم عن عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - قال : قال أكرم خليقة الله أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم : " إن الجنة في السماء " . وروى أبو نعيم أيضا عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : الجنة في السماء السابعة ، ويجعلها الله تعالى حيث شاء يوم القيامة ، وجهنم في الأرض السابعة .

وروى ابن منده عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه : الجنة في السماء الرابعة ، فإذا كان يوم القيامة جعلها الله حيث شاء ، والنار في الأرض السابعة ، فإذا كان يوم القيامة جعلها الله حيث شاء .

وقال مجاهد : قلت لابن عباس - رضي الله عنهما : أين الجنة ؟ قال :

فوق سبع سماوات . قلت : فأين النار ؟ قال : تحت سبعة أبحر مطبقة . رواه ابن منده .

وثبت في الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - قال :

" الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين ما بين السماء والأرض " ، وهذا يدل على أنها في غاية العلو ، والارتفاع .

وفي لفظ لهذا الحديث " ( إن في ) الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض أعدها الله للمجاهدين في سبيله " . وشيخ الإسلام ابن تيمية يرجح هذا اللفظ ، وهو لا ينفي أن تكون درجة الجنة أكثر من ذلك كما في قوله - صلى الله عليه وسلم : " إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة " أي : من جملة أسمائه هذا العدد ، فيكون الكلام جملة واحدة في الموضعين .

[ ص: 238 ] ويدل على هذا أن منزلة نبينا - صلى الله عليه وسلم - فوق هذا كله في درجة في الجنة ليس فوقها درجة ، وتلك المائة ينالها آحاد أمته بالجهاد .

وقال في ( حادي الأرواح ) : والجنة مقببة ، أعلاها أوسعها ووسطها وهو الفردوس ، وسقفه العرش كما قاله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : " إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس ، فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة ، وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تفجر أنهار الجنة " .

قال في حادي الأرواح : قال شيخنا أبو الحجاج المزي الحافظ : والصواب راوية من رواه فوقه بضم القاف على أنها اسم الظرف ، أي : وسقفه عرش الرحمن .

فإن قيل : فالجنة جميعها تحت العرش ، والعرش سقفها ، فإن الكرسي وسع السماوات والأرض ، والعرش أكبر منه ، فالجواب : لما كان العرش أقرب إلى الفردوس مما دونه من الجنان بحيث لا جنة فوقه دون العرش كان سقفا له دون ما تحته من الجنان لعظم سعة الجنة ، وغاية ارتفاعها يكون الصعود من أدنى إلى أعلى بالتدريج شيئا فشيئا درجة فوق درجة ، كما يقال لقارئ القرآن اقرأ وارق ، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها ، وهذا يحتمل شيئين : أن تكون منزلته عند آخر حفظه ، وأن تكون عند آخر تلاوته لمحفوظه ، والله أعلم .

وأخرج أبو نعيم في تاريخ أصبهان عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " إن جهنم محيطة بالدنيا ، وإن الجنة ورائها ، فلهذا كان الصراط على جهنم طريقا إلى الجنة " .

وأخرج جويبر في تفسيره عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم : من أين يجاء بجهنم يوم القيامة ؟ قال : " يجاء بها من الأرض السابعة لها سبعون ألف زمام معلق ، مع كل زمام سبعون ألف ملك ، تصيح إلي أهلي إلي أهلي ، فإذا كانت من العباد على مسيرة مائة سنة زفرت زفرة ، فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه يقول : رب نفسي نفسي " . وأخرج الإمام أحمد بسند رجاله ثقات ، عن يعلى بن أمية - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " البحر هو جهنم " . وأخرج الإمام أحمد أيضا في الزهد عن سعيد بن أبى الحسين قال : البحر طبق [ ص: 239 ] جهنم . وأخرج أبو الشيخ في العظمة والبيهقي من طريق سعيد بن المسيب عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : ما رأيت يهوديا أصدق من فلان زعم أن نار الله الكبرى هي البحر فإذا كان يوم القيامة جمع الله فيه الشمس والقمر والنجوم ثم بعث عليه الدبور فسعرته .

وأخرج أبو الشيخ عن كعب في قوله تعالى ( والبحر المسجور ) قال البحر يسجر فيصير جهنم .

وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن وهب أنه قال : إذا قامت القيامة أمر بالغلق فيكشف عن سقر ، وهو غطاؤها فتخرج منه ، فإذا وصلت إلى البحر المطبق على شفير جهنم وهو بحر البحور نشفته أسرع من طرفة العين ، وهو حاجز بين جهنم والأرضين السبع ، فإذا نشف اشتعلت في الأرضين السبع فتدعها جمرة واحدة ، وقيل : إن النار في السماء كالجنة لما روى الإمام أحمد من حديث حذيفة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أتيت بالبراق فلم نزايل طرفة عين أنا وجبريل حتى أتيت بيت المقدس ، وفتحت لنا أبواب السماء ورأيت الجنة والنار " . وأخرج أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " رأيت ليلة أسري بي الجنة والنار في السماء فقرأت هذه الآية وفى السماء رزقكم وما توعدون فكأني لم أقرأها " .

وليس في هذا ونحوه حجة على أن النار في السماء لجواز أن يراها في الأرض وهو في السماء ، وهذا الميت يرى وهو في قبره الجنة والنار وليست الجنة في الأرض ، وثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - رآهما وهو في صلاة الكسوف وهو في الأرض .

قال الحافظ ابن رجب : وحديث حذيفة إن ثبت وفيه أنه رأى الجنة والنار في السماء ، فالسماء ظرف للرؤية لا للمرئي . وفي حديث ضعيف جدا أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى الجنة والنار فوق السماوات ، فلو صح حمل ما ذكرنا . والحاصل أن الجنة فوق السماء السابعة وسقفها العرش ، وأن النار في الأرض السابعة على الصحيح المعتمد ، وبالله التوفيق ، ولما أنهى الكلام على الجنة والنار وصحح وجودهما الآن وبقائهما أبدا بلا نهاية ولا حساب ، وبرهن على ذلك وعلى مكانهما أعقب ذلك بقوله :

التالي السابق


الخدمات العلمية