الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( تتمة )

( في مسائل مما نحن بصدده من أمر الروح )

( الأولى ) اختلف في خلق الأرواح هل كان قبل خلق الأجساد أو تأخر عنها ؟ فللناس فيها قولان معروفان حكاهما شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه المحقق ابن القيم وغيرهما وممن ذهب إلى تقدم خلق الأرواح على الأجساد محمد بن نصر المروزي وأبو محمد بن حزم بل حكاه ابن حزم إجماعا ، واحتج من قال بذلك بحجج منها قوله تعالى ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا وثم للترتيب والمهلة فقد تضمنت الآية الكريمة أن خلقنا مقدم على أمر الله الملائكة بالسجود لآدم ومن المعلوم قطعا أن أبداننا حادثة بعد ذلك فعلم أنها الأرواح ، قالوا ويدل عليه قوله تعالى وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى وهذا الاستنطاق والإشهاد إنما كان [ ص: 41 ] لأرواحنا إذ لم تكن الأبدان حينئذ موجودة ، ففي موطأ الإمام مالك أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنها فقال " خلق الله آدم ثم مسح على ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون وخلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون " فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله إذا خلق الرجل للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل به الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار " قال الحاكم هذا حديث على شرط مسلم .

وروى الحاكم من حديث أبي هريرة مرفوعا " لما خلق الله آدم مسح على ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة أمثال الذر ثم جعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور ثم عرضهم على آدم فقال من هؤلاء يا رب ؟ فقال : هؤلاء ذريتك ، فرأى رجلا منهم أعجبه وبيص ما بين عينيه فقال يا رب من هذا ؟ فقال هذا ابنك داود يكون في آخر الأمم ، قال كم جعلت له من العمر ؟ قال ستين سنة ، قال يا رب زده من عمري أربعين سنة ، فقال الله إذا يكتب فيختم فلا يبدل ، فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت قال : أولم يبق من عمري أربعون سنة ؟ فقال : أولم تجعلها لابنك داود ؟ قال فجحد فجحدت ذريته ، ونسي فنسيت ذريته ، وخطئ فخطئت ذريته " قال الحاكم : هذا على شرط مسلم . ورواه الترمذي وقال : هذا حديث حسن صحيح .

ورواه الإمام أحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما نزلت آية الدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أول من جحد آدم عليه السلام " وزاد ابن سعد : ثم أكمل الله لآدم ألف سنة ولداود مائة سنة . وفي صحيح الحاكم أيضا عن أبي بن كعب رضي الله عنه في قوله تعالى وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم الآية قال جمعهم له يومئذ جميعا ما هو كائن إلى يوم القيامة فجعلهم أرواحا ثم صورهم واستنطقهم فتكلموا وأخذ عليهم العهد والميثاق وأشهدهم على [ ص: 42 ] أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين . قال : فإني أشهد عليكم السماوات السبع والأرضين السبع وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين فلا تشركوا بي شيئا فإني أرسل إليكم رسلا يذكرونكم عهدي وميثاقي وأنزل عليكم كتبي . فقالوا إنا نشهد أنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك . ورفع لهم أبوهم آدم فرأى فيهم الغني والفقير وحسن الصورة وغير ذلك فقال رب لو سويت بين عبادك ، فقال إني أحب أن أشكر ، ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج وخصوا بميثاق آخر بالرسالة والنبوة فذلك قوله تعالى وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وهو قوله فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله وهو قوله هذا نذير من النذر الأولى وقوله وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين قال وكان روح عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عليها الميثاق فأرسل ذلك الروح إلى مريم لما انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فدخل من فيها .

وهذا إسناد صحيح . وأخرجه إسحاق بن راهويه ، ورواه محمد بن نصر المروزي من حديث عبد الله بن سلام ، وقد روي ذلك من وجوه متعددة عن جماعة من الصحابة متعددة وفيه أنه أخرجهم مثل الذر ومثل اللؤلؤ بياضا . وروى إسحاق ثنا روح بن عبادة ثنا موسى بن عبيدة الربذي قال سمعت محمد بن كعب القرظي يقول في هذه الآية أقروا له بالإيمان والمعرفة الأرواح قبل أن تخلق أجسادها .

قال وثنا الفضل بن موسى عن عبد الملك عن عطاء في هذه الآية قال أخرجوا من صلب آدم حين أخذ الميثاق ثم ردوا في صلبه . وأخرج عن الضحاك قال إن الله أخرج من ظهر آدم يوم خلقه ما يكون إلى يوم القيامة فأخرجهم مثل الذر فقال ألست بربكم قالوا بلى قالت الملائكة شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ، ثم قبض قبضة بيمينه فقال : هؤلاء في الجنة ، وقبض أخرى وقال هؤلاء في النار . واحتجوا أيضا بما أخرجه الإمام ( أبو ) عبد الله بن منده من حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه مرفوعا أن الله خلق أرواح العباد قبل العباد بألفي عام فما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف .

[ ص: 43 ] وقال الآخرون بل خلقت الأجساد قبل الأرواح واحتجوا بحجج منها قوله تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وهذا خطاب للإنسان الذي هو روح وبدن فدل أن جملته مخلوقة بعد خلق الأبوين وأصرح منه قوله تعالى يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء وهذا صريح في أن خلق جملة النوع الإنساني بعد خلق أصله .

وأيضا فخلق أبي البشر وأصلهم كان هكذا فإن الله أرسل جبريل فقبض قبضة من الأرض ثم خمرها حتى صارت طينا ثم صوره ثم نفخ فيه الروح بعد أن صوره فلما دخلت الروح فيه صار لحما ودما حيا ناطقا ففي تفسير أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن مرة عن ابن مسعود رضي الله عنه وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : لما فرغ الله من خلق ما أحب استوى على العرش فجعل إبليس على ملك السماء الدنيا وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجنة وكان إبليس مع ملكه خازنا فوقع في صدره وقال ما أعطاني الله هذا إلا لمزية لي ، وفي لفظ إلا لمزية لي على الملائكة . فلما وقع ذلك الكبر في نفسه اطلع الله على ذلك منه فقال الله لملائكته إني جاعل في الأرض خليفة - وذكر الأثر إلى أن قال : فبعث الله جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها فقالت الأرض إني أعوذ بالله منك أن تقبض مني ، فرجع ولم يأخذ وقال : رب إنها عاذت بك فأعذتها ، فبعث ميكائيل فعاذت منه فأعاذها ، فبعث ملك الموت فعاذت منه فقال أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره ، فأخذ من وجه الأرض وخلط فلم يأخذ من مكان واحد ، فأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء ، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين ، فصعد به قبل الرب حتى عاد طينا لازبا واللازب هو الذي يلزق بعضه ببعض ثم قال للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فخلقه الله بيده لكيلا يتكبر إبليس عنه ليقول له تتكبر عما عملت بيدي ولم أتكبر أنا عنه ، فخلقه بشرا فكان جسدا من طين أربعين سنة فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه وكان أشدهم فزعا منه إبليس فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت [ ص: 44 ] الفخار يكون له صلصلة فذلك حين يقول من صلصال كالفخار ويقول لأمر ما خلقت ودخل من فيه وخرج من دبره فقال للملائكة لا ترهبوا من هذا فإن ربكم صمد وهذا أجوف لئن سلطت عليه لأهلكنه ، فلما بلغ الحين الذي يريده الله جل ثناؤه أن ينفخ فيه الروح قال للملائكة إذا نفخت فيه من الروح فاسجدوا له ، فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه عطس فقالت الملائكة قل الحمد لله فقال الحمد لله فقال الله : يرحمك ربك ، فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام قبل أن يبلغ الروح رجليه نهض عجلان إلى ثمار الجنة فذلك حين يقول الله تعالى خلق الإنسان من عجل - وذكر باقي الحديث . فالقرآن والحديث والآثار تدل على أنه سبحانه نفخ فيه من روحه بعد خلق جسده فمن تلك النفخة حدثت فيه الروح ولو كانت روحه مخلوقة قبل بدنه مع جملة أرواح ذريته لما عجبت الملائكة من خلقه ، ولا تعجبوا من خلق النار في حديث ابن زيد " إن الله لما خلق النار ذعرت منها الملائكة ذعرا شديدا وقالوا ربنا لم خلقت هذه النار ولأي شيء خلقتها ؟ قال لمن عصاني من خلقي ولم يكن الله خلق يومئذ إلا الملائكة والأرض ليس فيها خلق إنما خلق آدم بعد " - الحديث .

فلو كانت الأرواح مخلوقة يومئذ لما تعجبت الملائكة من خلق النار وقالت لأي شيء خلقتها وهي ترى أرواح بني آدم فيهم المؤمن والكافر والطيب والخبيث . ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر في الحديث الصحيح الذي في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود رضي الله عنه " إن خلق ابن آدم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح " فالملك وحده يرسل إليه فينفخ فيه فإذا نفخ فيه كان ذلك سبب حدوث الروح فيه ولم يقل يرسل إليه الملك بالروح فيدخلها في بدنه ، وإنما أرسل إليه الملك فأحدث فيه الروح بنفخته فيه لا أنه تعالى أرسل إليه الروح التي كانت موجودة قبل ذلك بالزمن الطويل مع الملك ففرق بين أن يرسل إليه ملك ينفخ فيه الروح وبين أن يرسل إليه روح مخلوقة قائمة بنفسها مع الملك ، وتأمل ما دل عليه النص قاله ابن القيم في كتابه الروح [ ص: 45 ] واختار أن خلق الجسد مقدم على خلق الروح وزيف كلام ابن حزم وغيره بما يطول ذكره ، وحاصل ما ذكر أن الذي استدلوا به من أخذ الله الميثاق من ذرية آدم والعهد والإشهاد لا يدل على تقدم خلق الأرواح قبل الأجساد خلقا مستقرا وإنما غايتها أن تدل على إخراج صورهم وأمثالهم في صور الذر واستنطاقهم ثم ردهم إلى أصلهم إن صح الخبر بذلك ، والذي صح إنما هو القدر السابق وتقسيمهم إلى شقي وسعيد وأما استدلال أبي محمد بن حزم بقوله تعالى ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فلائق هذا الاستدلال بظاهريته لترتب الأمر بالسجود لآدم على خلقنا وتصويرنا .

والخطاب للجملة المركبة من البدن والروح وذلك متأخر عن خلق آدم عليه السلام ، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما ولقد خلقناكم يعني آدم ثم صورناكم يعني ذريته . وقال مجاهد خلقناكم يعني آدم ثم صورناكم في ظهر آدم . وإنما قال خلقناكم بلفظ الجمع وهو يريد آدم كما يقال ضربناكم وإنما ضربت سيدهم .

قال وأما حديث خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام فلا يصح إسناده فإن فيه عتبة بن السكن قال الدارقطني متروك ، وفيه أيضا أرطاة بن المنذر بعض أحاديثه غلط . والحاصل أن الذي ذهب إليه ابن القيم تبعا لشيخه وجموع ، أن خلق الأجساد مقدم على خلق الأرواح . وذهب محمد بن نصر المروزي وأبو محمد بن حزم والإمام إسحاق بن راهويه إلى تقدم خلق الأرواح وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية