الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( الثاني ) : اختلف في المراد من قوله تعالى ( فكان قاب قوسين أو أدنى ) أي حيث الوتر من القوس ، قاله مجاهد ، وقال أبو عبيدة : قاب قوسين أي مقدار قوسين أو أدنى أو أقرب ، والقاب ما بين القبة والسية من القوس ، قال الواحدي : هذا قول الجمهور من المفسرين أن المراد بالقوس التي يرمى بها . قال : وقيل : المراد بها الذراع ؛ لأنه يقاس بها الشيء . قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري : وينبغي أن يكون هذا القول هو الراجح ، فقد أخرج ابن مردويه بإسناد صحيح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : القاب القدر ، والقوسين الذراعان . ويؤيده أنه لو كان المراد به القوس التي يرمى بها لم يمثل بذلك ليحتاج إلى التثنية فكان يقال مثلا : قاب رمح أو نحو ذلك ، وقد قيل أنه على القلب ، والمراد فكان قابي قوس ؛ لأن القاب ما بين المقبض إلى السية ، فلكل قوس قابان بالنسبة إلى خالفته . وقوله : أو أدنى أي : أقرب ، قال الزجاج : خاطب الله العرب بما ألفوا ، والمعنى : فيما تقدرون أنتم ، والله تعالى عالم بالأشياء على ما هي عليه لا تردد عنده ، وقيل : أو بمعنى بل ، والتقدير بل هو أقرب من القدر المذكور ، وسية القوس هي الفرضة التي يوضع فيها الوتر ، والمراد به جبريل عليه السلام . قال الحافظ ابن كثير : هذا هو الصحيح في التفسير كما دل عليه كلام الصحابة - رضي الله عنهم .

[ ص: 286 ] وقد روى الشعبي عن مسروق قال : قلت لعائشة رضي الله عنها ( ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ) قالت ذاك جبريل . قال المحقق ابن القيم : لأن جبريل هو الموصوف بما ذكر من أول السورة إلى قوله ( ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ) هكذا فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح لعائشة ، قالت عائشة - رضي الله عنها : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية فقال : ذلك جبريل لم أره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين . رواه مسلم .

قال : ولفظ القرآن لا يدل على غير ذلك ، ثم ساق سبعة وجوه دالة على ذلك ، قال : وأما ما وقع في البخاري من رواية شريك عن أنس ودنا للجبار رب العزة ، فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى ، فقد تكلم الناس فيه ، وقالوا : إن شريكا غلط فيه وذكر فيه أمورا منكرة ، لكن قال المحقق أن الدنو والتدلي الذي في حديث شريك غير الذي في الآية ، ولذا قال الرازي في تفسيره : فكان قاب قوسين أي : فكان بين جبريل ومحمد - صلى الله عليه وسلم - مقدار قوسين أو أقل ، وهذا على استعمال العرب وعادتهم ، فإن الأميرين منهم أو الكبيرين إذا اصطلحا وتعاقدا أخرجا بقوسيهما ، فجعل كل واحد منهما قوسه بطرف قوس صاحبه ، ومن دونهما من الرعية يكون كفه بكف صاحبه فيمدان باعيهما كذلك فسمي مبايعة . انتهى .

وقوله : أو أدنى ، قال المحقق ابن القيم : أو هنا ليست للشك بل لتحقيق قدر المسافة فإنها لا تزيد على قوسين البتة كما قال تعالى ( وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون ) تحقيقا لهذا العدد ، وأنهم لا ينقصون عن مائة ألف رجلا واحدا ، ونظيره قوله تعالى ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) أي لا تنقص قسوتها عن قسوة الحجارة بل إن لم تزد على قسوة الحجارة لم تكن دونها ، قال : وهذا المعنى أحسن وألطف وأدق من قول من جعل " أو " في هذا الموضع بمعنى بل ، ومن قول من جعلها للشك بالنسبة إلى الرائي ، ومن قول من جعلها بمعنى الواو فتأمله . انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية