الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      الحالة الثالثة : أن ينقص من لفظه ويحذفه ، فينظر إن تعلق به المحذوف تعلقا لفظيا أو معنويا لم يجز بالاتفاق ، كما قاله الهندي والإبياري وغيرهما ، والتعلق اللفظي كالتقييد بالاستثناء والشرط والغاية والصفة . والمعنوي كما إذا كان المتعلق مذكورا بجملة مستقلة ، لا يتعلق المعنى المذكور في الرواية بها ، [ ص: 279 ] كما في بيان التخصيص والنسخ ، وبيان المجمل بجملة مستقلة ، وكلام ابن القشيري فينقص عن الخلاف الآتي ، وإن لم يكن كذلك فعلى الخلاف في الرواية بالمعنى ، فالمانعون ثم منع أكثرهم هاهنا ، وأما المجوزون ثم فاختلفوا هاهنا على أقوال .

                                                      [ المذاهب في جواز حذف شيء من الحديث ] أحدها : أنه إن كان نقل ذلك هو أو غيره مرة بتمامه ، جاز أن ينقل البعض ، وإن لم ينقل ذلك لا هو ولا غيره لم يجز ، هكذا حكاه القاضي في " التقريب " ، والشيخ في " اللمع " ، وغيرهما ، وقيد الغزالي الجواز في الشق الأول بأن لا يتطرق إليه سوء الظن بالتهمة باضطراب النقل . والثاني : الجواز مطلقا ، سواء تعلق بعضه ببعض أم لا ، كذا حكاه الشيخ أبو إسحاق في " اللمع " ، وكذا القاضي في " التقريب " ، وابن القشيري ، وهو يعكر على ما حكياه من الاتفاق أولا ، لكنه بعيد ، فإن أحدا لا يجوز حذف الغاية والاستثناء ، والاقتصار على أصل الكلام ، وحكى سليم الرازي فيما إذا لم يتعلق بعضه ببعض طريقتين : إحداهما : إجراء خلاف الرواية بالمعنى . والثانية : القطع بالجواز ، قال : وهي المذهب . قال : أما إذا روى بعض الخبر ، ثم أراد أن ينقله بتمامه ، فإن كان لا يفهم بأنه زاد في حديثه قبل ذلك ، وإن كان يفهم كان عذرا له في تركه الزيادة وكتمانها . [ ص: 280 ] وكذا قال القاضي في التقريب " : متى خاف راوي الحديث على التمام أنه إذا رواه مرة ناقصا أن يتهم وجب عليه روايته على التمام ، دفعا عن نفسه التهمة المسقطة للرواية . وشرط أيضا للجواز أن يكون السامع متذكرا لتمامه ، فإن خاف غفلته أو نسيانه لم يحل له إلا روايته تاما .

                                                      قال : فإن شاركه في السماع غيره لم يحل له الاقتصار على البعض ; لئلا يفسد على السامع الآخر الذي لم يسمعه إلا تاما . والثالث : المنع مطلقا . والرابع : الحديث إن كان مشهورا بتمامه جاز نقل بعضه ، وإلا فلا ، قاله بعض شراح " اللمع " . والخامس : إن كان لا يعلم إلا من جهته ، فإن تعلق به حكم لم يجز أن يترك منه شيئا ، وإن لم يتعلق به حكم نظر ، فإن كان الناقل فقيها جاز له ذلك ، وإن كان غير فقيه امتنع . قاله ابن فورك ، وأبو الحسين بن القطان ، في كتابيهما . قالا : وإن كان تقدم قبل ذلك جاز له الاكتفاء بالبعض ، كما روي { أنه عليه السلام رد عمر بن الخطاب إلى آية الكلالة . فقال : تكفيك آية الصيف } ، فلو لم يكن فيها كفاية لما وكله إليها . وكذلك ترك الأمر بالقضاء في حديث الواطئ في رمضان اكتفاء بما ذكره في المريض والمسافر ، وإن كان قد جاء من طريق آخر الأمر بالقضاء ، ولحديث { ابن مسعود : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بحجرين وروثة ، فرمى الروثة وترك نقل الحجر الآخر اكتفاء } ، وقد روى أحمد بن حنبل مسندا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ائتني [ ص: 281 ] بحجر ثالث } .

                                                      وكذا قال إلكيا الطبري : الحق في هذه المسألة التفصيل بين أن يكون المحذوف حكما متميزا عما قبله ، والناقل فقيه عالم بوجه التمييز فيجوز ، كحديث ابن مسعود ، فحيث لم ينقل الحجر الثالث كان مقصوده منع الاستنجاء بالروث ، وإن كان مقصوده مراعاة العدد لوجب عليه نقل جميعه . وإن كان الناقل ظاهر حاله الاعتناء بنقله واستيفاء روايته ، فظاهر حاله أن لا ينقل سواه كقضية ماعز ، فإن الراوي استوفاها ولم يذكر رجمه . قال : وهذه المسألة ومسألة نقل الخبر بالمعنى في المأخذ والمنشأ سواء ، وقد ينتهي الأمر فيهما إلى التفصيل بين الراوي الفقيه وغيره ، وقد يسوى بينهما كما يسوى بين الراوي الفقيه وغيره . وقال القاضي : يجوز أن يرويه ناقصا لمن رواه له قبل ذلك تاما إذا غلب على ظنه أنه حافظ لتمامه ، فيذكر له ، فإن بانت غفلته ونسيانه لم يحل له إلا روايته على الكمال . وقال الماوردي والروياني : إنما يجوز بشرط أن يكون الباقي مستقلا بمفهوم الحكم ، كقوله : { الطهور ماؤه الحل ميتته } ، فيجوز له رواية أحد الأمرين إلا أن يتعينا عليه للإبلاغ عند الحاجة ، فيلزمه الجمع ، كالشهادة . فإن كان الباقي لا يفهم معناه ، فلا يجوز ، وعليه أن يستوفيه لتتم فائدة الخبر ، وإن كان مفهوما ولكن ذكر المتروك يوجب اختلاف الحكم في المذكور ، كقوله : { أعد أضحيتك ، فقال : ليس عندي إلا جذعة من المعز ، [ ص: 282 ] فقال : تجزئك ، ولم تجزئ لأحد بعدك } ، فلو روى أنه قال : يجزئك ، لفهم أنه يجزئ عن جميع الناس ، فلا يجوز تركه . ا هـ .

                                                      والمختار جواز اختصاره بشرط الاستقلال ، وقد جاء الحديث الطويل في صفة الحج ، ساقه جابر سياقا واحدا عند خروج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى أن دخلها . ذكره مسلم ، وأبو داود على هذا السياق ، وجزأه مالك ، والبخاري ، والترمذي على الأبواب . وقال أبو الوليد بن رشد : هو عندي جائز ، إذا كان مفيدا ومكتفيا بنفسه وغير محتاج في فهمه إلى ما قبله ، أو كان ليس يوجب صدق ما حذف منه ، تردد المفهوم عنه بين معنيين أو أكثر ، وسواء جوزنا الرواية بالمعنى أو لا ، واستحسنه العبدري . أما إذا كان ترك بعضه يتضمن ترك بيان ما أوله ، ويوهم منه شيئا يزول بذكر الزيادة لم يجز حذفها ، مثل ما ذكره الشافعي ، فقال : نقل بعض النقلة عن { ابن مسعود أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بحجرين وروثة يستنجي ، فرمى الروثة ، وقال : إنها ركس } . وروي عنه أنه رمى الروثة ، ثم قال : ابغ لنا ثالثا ، والسكوت عن ذكر الثالث ليس يخل بذكر رمي الروثة وبيان أنها ركس ، لكن يوهم النقل كذلك جواز الاستنجاء بحجرين ، وقال [ ص: 283 ] الشافعي : فلا يجوز مع هذا الإيهام الاقتصار على بعض الحديث ، وتحمل رواية المقتصر على أنه لم تبلغه الزيادة . واختار إمام الحرمين في ذلك التفصيل بين أن يكون مقصد الراوي منع استعمال الروث ، فيجوز ، وإلا فلا يجوز . والحق ما قاله الشافعي ، بأن الإيهام حاصل ، وإن قصد الراوي منع استعمال الروث . وقد نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( { الثيب بالثيب جلد مائة والرجم ) } وفي رواية لم ينقل إلا الرجم . قال الشافعي : لا أتلقى سقوط الجلد عن الثيب من اقتصار الراوي إذ يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد ذكره في هذا الحديث ، فاستحضر الراوي الرجم فاقتصر عليه ، ولكنه مأخوذ من قضية ماعز ، وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                      أما إذا اقتصر على الزوائد من الحروف التي لا تغير المعنى وكان عالما بمصادر الكلام وموارده جاز إن قلنا تجوز الرواية بالمعنى ، وإلا فلا . قاله القاضي في " التقريب " .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية